إلى أين تسير تونس؟!
في كتابه الأخير الصادر بباريس قبل بضعة أشهر باللغة الفرنسية بعنوان «تونس نحو شعبوية استبدادية» خصّص الكاتب التونسي حاتم نفطي الصفحات الأخيرة منه إلى ذلك السؤال المحيّر الذي يؤرّق الجميع وهو «إلى أين تسير تونس؟» علما وأن السؤال نفسه كان عنوان كتابه الصادر عام 2019 «من الثورة إلى البناء، إلى أين تسير تونس؟».
ترك الكاتب المقيم بفرنسا السؤال إلى نهية كتابه كخلاصة لكنه لم يستطع أن يخرج بجواب قطعي وواضح عن هذا السؤال مكتفيا بالإشارة إلى بعض «الخيوط» الهامة الواجب مواصلة رصدها بعناية لأنها الكفيلة ربّما بهدايتنا إلى الجواب. وهنا يشير الكاتب إلى أنه «بالنظر إلى موازين القوى المتحركة وهشاشة دولة القانون في تونس، يستحيل التنبؤ بمدى طول الفترة الحالية ولا بمآلها كذلك» مستعرضا بسرعة المؤشرات الهامة الحالية من تصاعد التسلط وانقسام الطبقة السياسية وخطورة الوضع الاقتصادي مع أزمة اجتماعية مستمرة وعلاقات دولية غير ثابتة، ليصل في النهاية إلى عنصر تفاؤل، ربما الوحيد، وهو أن زهاء 40٪ من التونسيين هم أقل من 25 عاما وأن هؤلاء الذين لم يعرفوا حقا الدكتاتورية من الصعب أن يقبلوا بعودتها.
السؤال يقض مضاجع أغلب التونسيين ولكنهم غير قادرين على الإجابة عليه سوى بالأماني من قبيل «ربي يقدّر الخير» و«ربنا يستر» وكلها تحيل إلى أن لا أحد يعرف فعلا إلى أين تتجه البلاد، لا أولئك المهلّلين بنفاق شديد، أو غباء أشد، إلى السياسات الحالية للرئيس قيس سعيّد، ولا أولئك المعارضين له، ولا أولئك الذين يتفرجون على الاثنين معا بلا حول ولا قوة، أو بلامبالاة مستفزّة، وربما بكليهما.
إلى أين يتجه هذا البلد أو ذاك هو الهمّ الرئيسي لكل قيادة سياسية في أي بقعة من هذا العالم، ليس فقط في الدول التي توصف بالمتقدمة، ولكن حتى في دول أخرى عديدة، من بينها دول عربية مضت إلى أكثر من ذلك فصاغت لنفسها رؤية معينة تعمل على هديها حددت فيها جملة من الأهداف الاقتصادية والتنموية وحتى السياسية تنشد الوصول اليها على مراحل مدروسة تتوج بالوصول إلى النتائج المنشودة. ومن هنا صاغت دول خليجية عديدة، مثل السعودية أو قطر أو عُمان ما سمتها «رؤية» للبلد باتت تسير على هديه وتمتد إلى 2030 أو 2040، أو مثل المغرب في قطاعات معينة مثل الزراعة أو الصيد البحري.
لا شك أن الاستقرار السياسي مع التوازن المالي، أو حتى الوفرة، ساعد مثل هذه الدول على صياغة تصورات تنموية واضحة، لكن تونس تحتاج على الأقل إلى معرفة أين يسير قارب البلاد لأنه يبدو فعلا تائها وسط أمواج متلاطمة. وإذا كان معارضو سعيّد يدركون إجمالا إلى أين يقود فعلا البلاد سياسيا واقتصاديا دون أن تصل بهم الأمور إلى البوح العلني والصارخ به، فإنه يبقى من حق أنصاره عليه، أو الذين مازالوا مؤمنين بحسن نواياه، أن يعرفوا منه مباشرة إلى يأخذهم حقا باعتبار قدّم نفسه الربان الوحيد لهذه السفينة.
هل بإمكان الرئيس أن يتوجه إلى الشعب، ولو لمرة واحدة بخطاب غير متشنج، يصارحه فيه بوضع البلاد دون أوهام أو شعارات، التي وإن كان لبعضها وجاهة في المطلق مثل «التعويل على أنفسنا» إلا أنها تبقى محتاجة إلى مضامين محددة ومدروسة. «الشعب يريد» هو الشعار المحبّب لقلب الرئيس، وكثيرا ما يتحدث بالنيابة عن هذا الشعب، ولكن هذا الشعب لا يريد هذه الأيام أكثر من معرفة متى يتوفر الخبز في المخابز، ومتى يتوفر الطحين والسكر والقهوة في المحال التجارية، ومتى يتوفر البنزين في محطات الوقود تجنبا للطوابير والساعات الطويلة. هذا الشعب يريد كذلك معرفة كيف سيتم رفع الدعم الحكومي عن المواد الأساسية، وكف ستعالج الدولة ضائقتها المالية دون اللجوء إلى الاقتراض الأجنبي، وهو الاقتراض الذي لن يكون متاحا سوى بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يرفضه الرئيس. في الأثناء، تبدو حكومته عاجزة عن شرح مخاطر كل ذلك، خاصة بعد تصريح وزيرة المالية أن العجز عن دفع أقساط ديون تونس الخارجية يعني إفلاس الدولة. الشعب يريد كذلك معرفة كيفية تحسين حال المستشفيات والمدارس ومرافق النقل العمومي، كما أنه يريد معرفة مصير عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل وكيف يمكن أن نعالج ظاهرة «قوارب الموت» نحو أوروبا…وقائمة الأسئلة المشروعة ما زالت طويلة.
لا يتحمّل سعيّد وزر كل شيء فهي تراكمات ما قبل الثورة، وما بعدها، وليس من الإنصاف تحميله كل ذلك لكن الأكيد أن مرور قرابة العامين على انقلابه، وكل ما ابتدعه إثر ذلك، لم يحل أيا من مشاكل البلاد بل أزّمها وزاد في تعفينها، مع تهرّب من التشخيص السليم للأوضاع ومصارحة الشعب بالحقائق. ومع ذلك، يزعم الرئيس أن «لديه حلولا للإنسانية جمعاء» مصرا على اعتبار أن تونس في «علوّ شاهق».. وهو علوّ كلما صعدته ازدادت اختناقا.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews