عمّن ارتضى ثقب السياسة وطنا وأفقا!
قبيل الدورة الأولى من الرئاسيات التونسية نشرت مجموعة من المثقفين والجامعيين بيانا دعت فيه إلى التصويت لعبد الكريم الزبيدي لأنه «مرشح متشبع بالقيم الجمهورية وقادر على الدفاع عنها، ولأنه مشهود له بالخبرة، ومشهور بالإخلاص والاستقامة، ويحظى بالثقة الشعبية». ورغم عدم وجود كبير خلاف على صحة نسبة هذه المناقب للرجل، فإنه قد يبدو اليوم أن «الثقة الشعبية» إنما أقحمت في البيان إقحاما «للضرورة الشعرية». إلا أن الحقيقة التي ربما طواها النسيان الآن هي أن الزبيدي قد حظي فعلا بشعبية واسعة بعيد وفاة الباجي قائد السبسي، حيث ضج الفيسبوك آنذاك بحملات تنادي به رئيسا. وقد ركز البيان على تبيان المشكلات الخطيرة التي تتخبط فيها البلاد وعلى مطالبة الزبيدي، في حال الفوز، بضمان مدنية الدولة والحريات العامة وبالعمل الجاد على تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وتضم المجموعة التي نشرت البيان شخصيات محترمة من أمثال الخبير القانوني والدستوري عياض بن عاشور والمناضلين الحقوقيين كمال الجندوبي وخميس الشماري والخبير الاقتصادي محمود بن رمضان والخبير الإعلامي عبد الكريم الحيزاوي، الخ.
الآن، وقد سكنت الحمى وصفت الرؤية نسبيا، يتبين أن المجموعة لم تكن مخطئة في موقفها. نقول هذا رغم أن الإعلام قد روج عن الزبيدي صورة الرجل الذي لا يحسن الكلام. إلا أن هذه مجرد صورة كاريكاتورية مبعثها حالات عارضة، تماما كما أن الإطلالات التلفزيونية، على مدى السنوات الأخيرة، قد روجت عن قيس سعيّد صورة الرجل الذي يحسن الكلام بالفصحى ويفقه ما يقول. والواقع أن هذه أيضا ما هي إلا صورة كاريكاتورية مبعثها انطباعات غائمة شاعت لدى جيل من الشباب الذي تتمثل علامته الفارقة في رداءة المستوى الثقافي (رغم كثرة الشهادات الجامعية)، والذي لا يحسن هو ذاته الكلام بأي لغة كانت، ولا حتى بالعامية.
على أن من فضائل هذه الدورة الأولى من الرئاسيات، رغم ما شابها من النقائص، أنها جلّت عدة حقائق يجدر التطرق منها هنا إلى اثنتين. الأولى أن الرئاسة ليست هي الوظيفة، أو الوسيلة، الوحيدة لخدمة البلاد. هذه حقيقة جديرة بأن تستوعبها شخصيات محترمة مثل الأستاذ منصف المرزوقي. فهو من أشد المناضلين الحقوقيين أصالة وصلابة ومن أفضلهم تبصرا بأحوال العالم المعاصر وتحديات المستقبل العربي والإنساني. إلا أن ولعه بالزعامة عموما، والرئاسة تحديدا، قد حجب عنه رؤية البديهيات: وهي أن زمنه السياسي قد مضى وانقضى؛ وأن في وسعه أن يخدم وطنه بوسائل، ومن مواقع، أخرى غير الرئاسة والزعامة. وينطبق هذا أيضا على الأستاذ سعيد العايدي. فهذا الرجل الكفء المتّقد وطنية هو دليل حي على نجاح نموذج «المدرسة الجمهورية» التي كانت، في عهد الاستقلال الأول، تخرّج من بين أبناء الشعب نخبا مشرّفة. ولكن تجربته الفاشلة وزيرا وتجربته المؤسفة مرشحا رئاسيا قد أثبتتا أنه لم يخلق للسياسة ولم ييسّر لها. ويمكن إيجاز المسألة في عبارة واحدة: أنه يفتقر إلى المكر والدهاء اللازمين لمن يندب نفسه للممارسة السياسية.
الحقيقة الثانية هي أن السياسة ليست المجال الوحيد لخدمة البلاد، بل إن مجالات العمل العام لا تحصى عددا. ذلك أنه قد بلغ من هوس بعض التوانسة بالسلطة أن ثقب السياسة قد صار لهم بمثابة الوطن الأوحد والأفق الأوسع! هذه هي الحقيقة التي نرى من المناسب أن يتنزل في إطارها ما ذكره زبير الشهودي، المدير السابق لمكتب الأستاذ راشد الغنوشي، عندما أعلن الثلاثاء استقالته من الهيئات القيادية في حركة النهضة. فقد جاء في بيان الاستقالة: «(..) وأتوجه بثلاث رسائل. الأولى لشعبنا الأبيّ: أعتذر من موقعي عن تقصيري في المساهمة في تحقيق أهداف الثورة في التنمية والرفاه والعدالة الاجتماعية. الثانية لإخواني في حركة النهضة الغالبية الخلّص منهم دون الأقلية الفاسدة والمفسدة: أعتذر إليهم لانتقادي العلني لرئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي الذي أطلب منه اعتزال السياسة وأن يلزم بيته ومحرابه ويبعد صهره رفيق عبد السلام وكل القيادات الذين دلّسوا إرادة كبار الناخبين في إقصاء مباشر لكل المخالفين في الرأي (..) وفي الختام أشهد الله أنني لم ألمس مالا عاما ولا تلقيت رشوة ولا أسديتها».
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews