الموصل.. شهادات مدينة ملتاعة
الفساد هو السبب الرئیسي لعودة ظهور تنظیم داعش بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي أسهمت في ظهوره قبل العام 2014 والتي لا تزال موجودة من ظلم وإقصاء وتهمیش وتدهور اقتصادي.
امتلأ بريدي برسائل وجهها إليّ أبناء الموصل، بعد نشر صحيفة “العرب” مقالتي “في الموصل.. نزوح معاكس من البيوت إلى الخيام”، لكن الأسماء في الرسائل كانت مستعارة تكتفي بالحرف الأول من اسم المرسل وأبيه أو لقبه، مما يشي بإرهاب الحشد الحكومي للناس، مع أن أغلب ما قالوه في رسائلهم رصدته وأعلنته منظمات محلية ودولية لحقوق الإنسان.
إنهم وجدوا أن هناك من يوصل صوتهم ويشرح معاناتهم، فطفقوا يشكرون الجريدة والكاتب، ولكن رسائلهم حملت استعراضا لجوانب أخرى مما يعانون لم نذكرها في المقالة السابقة.
ومن خلال قراءتنا لمقتطفات من هذه الرسائل ترتسم أمامنا صورة واضحة لما يجري في هذه المدينة التي عانت من إرهابيْن، ودُفن تحت أنقاض مبانيها أطفال ونساء وشيوخ.
وقد آثرت ألا أتدخل في النصوص الملتاعة، إلا في ما يخص بعض الهنات النحوية، وتركت رسائل أبناء الحدباء تتحدث بكل حرية بوصفها شهادات حية فيها من الويلات الموجعة ما يجعلها بمرتبة وثائق إنسانية توضع أمام الجمعيات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان.
والآن بات جليا أن الذي يهيمن على العراق ويتحكم برقاب شعبه هو الحشد الشعبي “المقدس” وأن أي حكومة لن تتلقى الأوامر إلا من هذه القوة.
إنهم يؤكدون أن الحشد الحكومي يزداد تغلغله في الدوائر الحكومیة بمحافظة نینوى، فهو يقصي مديري الدوائر ومديري الأقسام عن مناصبهم بمختلف الحجج والذرائع من أجل إحلال أشخاص آخرين موالین محلهم، مقابل الحصول على عقود وامتیازات من هذه الدوائر، فلا یتم تعیین مدیر إلا بعد الاتفاق معه على مبلغ كبیر مقابل تعیینه واستمرار الدعم المتبادل بین الطرفین، وهناك معلومات عن تعزیز المیلیشیات الموجودة في نینوى بالمزید من الأسلحة والذخائر ومحاولة ضم عدد من شباب المحافظة إلى صفوفها، وهو يماثل ما فعله تنظيم داعش في المدينة.
يشكو الموصليون من استیلاء عصابات ومتنفذین على الأراضي والممتلكات العامة التابعة للدولة أو للأوقاف من خلال التعاون مع أٔطراف من الحشد أو المسؤولین مقابل حصص واستثمارها أو بیعها خارج الضوابط ما یهدد بتحويل المدینة إلى عشوائیات، وهناك سباق محموم من أجل سحب الأموال من مجتمع محافظة نینوى ونقلها إلى بغداد أو إیران بشتى الطرق والوسائل من خلال بیع أراضي الدولة لهم أو منحهم إجازات في نشاط معین مثل استثمار أو مزاولة مهنة ما وغیرها ومن أي شيء تروم عمله في محافظة نینوى حتى الحصول على هویة أحوال مدنیة بسیطة یتطلب دفع أموال مقابل ذلك. وتكشف الرسائل عن أن الحشد الحكومي يسعى، هذه الأيام، إلى تقویة علاقته مع عشائر محافظة نینوى واستقطابها من أجل دفعها مستقبلا إلى مقاومة الأميركان في حال تطور الأمر وتصاعد المواجهة مع إیران، وعن زیادة السخط الشعبي على الحكومتین المركزیة والمحلیة بسبب نقص الخدمات وعدم الاكتراث بحاجات المناطق المحررة.
وتلفت إلى غیاب التخطیط في شتى مجالات إعمار محافظة نینوى وخضوع موضوع إعادة الخدمات والإعمار للصفقات المشبوهة والمزاج والمحسوبیة، وإلى تنامي الكراهیة ضد الحكومتین المحلیة والمركزیة والقوات الأمنیة بسبب التدهور الخدمي والاقتصادي، بالإضافة إلى الظلم الذي یتعرض له المواطن من إجراءات إداریة وأمنیة كونه من محافظة نینوى مثل التصریح الأمني وغیره.
الرسائل أثارت أيضا مشكلة تدهور الوضع الاجتماعي بین الطبقات الفقیرة بسبب الفقر والجهل جراء الحروب والنزاعات المسلحة وتدهور الواقع التعلیمي والصحي، والتوترات المتصاعدة في بعض أقضیة محافظة نینوى ونواحيها مثل سنجار وتلعفر وغیرهما بسبب سیطرة جهات مسلحة علیها.
بالاضافة إلى عدم الإفراج عن المعتقلین رغم صدور قرارات قضائیة بالإفراج عنهم بسبب مساومة ذویهم أو التربح من خلال حصص إطعامهم والمساعدات التي تقدم إليهم، فضلا عن مشكلة ابتزاز النازحين من خلال عدم السماح للكثیر من العائلات بمغادرة مخیمات النزوح بحجة أنهم أقرباء لأشخاص ينتمون إلى داعش والاستیلاء على منازلهم ومساومتهم والتربح أیضا من مخصصات إطعامهم والمساعدات التي تقدم إلیهم.
القضية الأخطر هي أن تنظیم داعش وصل إلى مراحل متقدمة في إعادة تنظیم صفوفه، وهو يمارس نشاطه بهدوء، وخاصة أن أغلب المنتمین إليه غیر مقبوض علیهم أو مفرج عنهم بحجة عدم كفایة الأدلة بسبب الفساد المستشري في المنظومة الأمنیة، إذ یتم رفع أسماء من يدفع من الحاسبة المركزیة مقابل مبالغ مالیة، أو يتم إصدار هویات رسمیة لهم بأسماء مختلفة أیضا مقابل مبالغ مالیة.
الفساد هو السبب الرئیسي لعودة ظهور التنظیم بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي أسهمت في ظهوره قبل العام 2014 والتي لا تزال موجودة من ظلم وإقصاء وتهمیش وتدهور اقتصادي، عدا عن تسجیل حالات عدة بتعرض تنظیم داعش إلى القرى المحاذیة لجزیرة نینوى الغربیة واغتیاله عددا من المختارین.
إن أهل الموصل ينتظرون الفرج، فقد فرضت عليهم طقوس طائفية غريبة لا يعرفونها، وسلطت عليهم سياط العذاب والتفقير، ومن غادر منهم مخيمات النزوح يعود إليها لأنه وجد أن حياته في تلك المخيمات أكثر أمنا وكرامة من حياة في بيت لا يدري متى يداهمه من يتهمه بأنه داعشي، ثم يسوقه إما إلى الاعتقال، وإما إلى الإعدام.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews