المشتقات المالية بين التحوط والمضاربة
كنت قد تحدثت عبر مقالات سابقة عن ماهية المشتقات المالية ، وكيف أنها قد تكون بمثابة وسيلة رئيسية لإدارة مخاطر تقلبات الأسعار والتحوط (سواء كانت أسعار الفائدة أو الصرف الأجنبي أو السلع وغيرها) ، فأدواتها تمد المتعاملين بها برؤية واضحة عن مدى تعرضهم ومقدرتهم لتحمل المخاطر السوقية ، ثم عرجنا بعد ذلك على بعض الدروس والعبر لبعض الشركات العالمية التي أساءت وأفرطت في استعمال هذه الأدوات لأهداف حادت عن معنى التحوط إلى دهاليز المضاربة ، مما أدى بها إلى الدخول في أزمات مالية وغيرها والتي ألقت بظلالها على سمعتها كذلك.
كما أشرنا سابقًا أيضًا ، يجب أن تكون هناك حوكمة واضحة أو لجنة مستقلة لدى الشركات تساهم في إعطاء الضوء الأخضر من عدمه للدخول بهذه المنتجات ولها الحق في طرح تساؤلات جوهرية. أحد هذه التساؤلات هي التعرف على أسوء ما يمكن أن تؤول إليه خسارة الشركة أو الفرصة البديلة جراء الدخول بهذه المنتجات. لذلك أشير هنا إلى أهمية عدم احتواء المنتج على أي مخاطر مفتوحة (Open-ended risk) والذي يعني أن القيمة العادلة لمنتج التحوط قد تصل إلى خسائر لا حد لها حسب تذبذب الأصل المرتبط به.
إن ما نشهده في بعض الشركات بالمملكة من قرارات بالدخول بمنتجات لا تعلم ماهيتها الحقيقية هي مدعاة للقلق وناقوس خطر يُنذر باحتمالية دخولها بتداعيات مالية سلبية جراء قصور في فهم وإدراك خطورتها ، بل ويتضاعف الإشكال عندما يكون منتج التحوط لا يستخدم فعليًا للحماية من تذبذبات السوق بل هو أقرب للمضاربة ، ولكي نجسد الفكرة بمثال بسيط ، نجد للأسف بعض الشركات التي لها احتياجات مستمرة لشراء عملة الدولار مقابل الريال لاستيفاء مشترياتها من الخارج يتم إغراؤه للدخول بمشتقات مالية من شأنها دفع مبلغ ثابت ومقطوع للعميل مقابل أن يلتزم - أي هذا العميل - بإعطاء الحق للجهة البائعة لمنتج التحوط بمطالبته بدفع مبالغ طائلة إذا ما ارتفع أو انخفض سعر صرف الدولار مقابل الريال خارج نطاقه التاريخي.
بطبيعة الحال يكون العميل على ثقة بأن العلاقة التاريخية بين الدولار والريال لن تتأثر، وأنه بمأمن كون بعض المعطيات الاقتصادية الحالية مرجحة لبقاء هذه العلاقة تمامًا كما هي عليه ، وبالتالي نجده يوغل بالدخول بهذه المشتقات والتي قد تأخذ مددًا ليست بالقصيرة وتكون غالبًا أكثر من ثلاث سنوات وبعضها معاكس تمامًا لاتجاه حاجة العميل ، ومن هنا يأتي التساؤل ، لماذا نعتبر هذا التصرف مضاربة بحتة وليست تحوط ؟
أولًا : الشركة لديها - كما أسلفت - احتياجات لشراء الدولار بمعنى يجب أن تكون محمية في حال ارتفع الدولار مقابل الريال ليتحقق شرط ومبدأ التحوط المنشود وليس العكس حيث ارتفاع الدولار سوف يضر الشركة من الجهتين (ارتفاع تكلفة الشراء الاعتيادية للدولار وتضخم القيمة السالبة لمنتج التحوط الذي تم الدخول فيه) .
ثانيًا : التعامل مع مدد طويلة مصحوبة برؤية قاصرة للاحتياجات المستقبلية لا يمكن تفسيرها غير أنها اجتهادات شخصية لم توفق فهدفها حل مشكلة السيولة قصيرة الأجل أو غيرها واستلام المبالغ المقطوعة وكأن لسان حال الشركة يقول لكل حادث حديث ، وحتى يُفهم حديثي بشكل أدق فإننا قد نجد ممن يقوم بالدخول بهذه المنتجات ليس بهدف حل مشكلة بذاتها بل باعتباره مصدر عائد إضافي متجاهلين ما يمكن أن تحمله هذه المنتجات من التزامات مستقبلية محتملة .
الأمر الآخر هو تساؤل يتعلق بالشفافية عن طريق عرض مجموعة سيناريوهات للعميل عما يمكن أن تؤول إليه حال الشركة جراء الالتزام بهذه المنتجات. نجد للأسف أن بعض من يسوِّقُ لهذه المنتجات لا يوضح للعملاء الأثر التراكمي للخسارة المحتملة للمنتج بل يكتفي بإقرارات من العميل أنه فهم مخاطر المنتج ، وأنه على دراية كاملة بما يمكن أن يحدث جراء الدخول بها دون أدنى مسؤولية على عاتق المسوِّق لتلك المنتجات .
قد نرى بعض الشركات تتخذ قرارًا بالتحوط بناءً على علاقة متبادلة تاريخية بين عوامل السوق المختلفة ، فعلى سبيل المثال ، قد ترى الشركة أن العلاقة بين حركة سوق الأسهم في دولة معينة تتناسب عكسيًا مع سعر عملتها بشكل قوي ، بحيث أنه جرت العادة عند حصول أي انخفاض بالأسهم نجد أن العملة ترتفع والعكس صحيح . عندئذ يكون في نظر الشركة أنه لا يوجد أي سبب للتحوط من التذبذبات الحاصلة بحكم أن انخفاض الأصل الأول سيعوضه ارتفاع الأصل الآخر.
للأسف هذا لا يكون صحيحًا دائمًا ، خصوصًا عند الأزمات عندما نلاحظ أن مثل هذه الارتباطات قد تُكسر بشكل مباغت وسريع ، وفي نفس السياق يجب عند اتخاذ أي قرار بالدخول في المشتقات المالية أن يتم مراعاة أن مثل هذه العلاقات قد لا تستمر بالضرورة ويجب عدم اعتمادها على أي حال ، ولنا في الأزمة الأخيرة مثال حين رأينا أن بعض الارتباطات قد تلاشت وتبدلت عما كانت عليه سابقًا كما هو الحال في أذونات الدين المضمونة (Collateralized Debt Obligations) ومقايضات العجز الائتماني (Credit Default Swap).
يبدو لي أن هنالك علاقة طردية قوية بمدى ارتفاع الأسعار (الفائدة على سبيل المثال) ، ومدى تقبل الشركات بالدخول بالمشتقات المالية المعقدة . السبب يكمن في أن الشركات تتأثر سلبًا بارتفاع أسعار الفائدة خصوصًا إذا ما كان معدل القروض والرفع المالي (Leverage) مرتفعًا. عندئذ تأتي بعض الجهات المالية المتخصصة بالمشتقات كالمنقذ مسوقة منتجات معقدة ترى فيها بعض الشركات حلًا لبعض الإشكاليات الراهنة ، ولكن في الحقيقة قد تكون ذات عواقب وخيمة خلال المدى المتوسط تاركةً آثار طويلة الأمد كما أشرنا سابقًا .
لكل من يتساءل عن الفائدة المحصلة لمزودي تلك المنتجات جراء بيعها فالإجابة يسيرة ، فبيع المنتجات المعقدة أكثر إغراء من ناحية العوائد المتحصلة كما أسلفنا وكذلك تعذر العميل لفهم مكامن وآليات التسعير مقارنة بالمنتجات البسيطة بحكم أنها ليست من اختصاصه ، ولذلك نجد أن هناك نزعة من بعض مقدمي وبائعي المشتقات المالية لبيع المعقد والمركب منها ، خصوصا اذا التزم العميل بالضمانات المجزية للجهة المالية المقدمة للمنتج.
إنه حري بالمنظمات والشركات المهتمة في التعامل مع بعض هذه المنتجات أن تأخذ الخطوات اللازمة لدراسة جميع الحيثيات المرتبطة بالمنتج مع تفضيل الأخذ بالاستشارة الموضوعية من طرف ثالث مستقل لتقييم المنتج ، وذلك بالنظر إلى احتياجات الشركة الفعلية وسياسات التحوط إن وجدت.
من وجهة نظري الشخصية ، فإن التعامل بالمشتقات المالية - بهدف الحماية من تقلبات الأسعار - يجب أن يكون في نطاق المنتجات التقليدية البسيطة المفهومة بكل جوانبها من قبل مجلس الإدارة والمدراء التنفيذيين المعنيين بالتحوط داخل الشركة. ذلك لأنه كلما زاد تعقيد وهيكلة المنتج كلما رأينا أنه من الصعب إدراك المخاطر المتأصلة فيه ، والنهاية قد تكون كارثية إذا ما تحرك السوق بمسار غير متوقع أو محسوب سلفًا.
عند البحث عن بعض النماذج خارجيًا ، واستعراض بعض الأرقام فسنجد أنه في عام 2012م وجدت هيئة مراقبة السلوكيات المالية البريطانية أكثر من 19 ألف حالة لبيع المشتقات المالية المربوطة بأسعار الفائدة فقط والتي تم بيعها لعملاء غير مؤهلين ، مما أدى بالهيئة الرقابية لتغريم ثمانية بنوك بحوالي مليار وربع جنيه إسترليني ، مما جعل البنوك تنسحب من بيع منتجاتها للعملاء الغير مؤهلين تفاديًا لتكرار الأمر ، ونجد أيضًا أن بعضًا من الجهات الرقابية والمشرعين في دول أخرى فرضوا قيودًا من نوع آخر مثل منع بيع أي منتج يحوي على مخاطر مفتوحة كما أشرنا آنفًا ، وعليه يجب أن يكون هناك حد أقصى للخسائر المترتبة على أي أداة مالية مشتقة يتم بيعها .
لا ننكر أهمية الدور الذي تلعبه مؤسسة النقد بمراقبة عمليات بيع المشتقات المالية ، وسن القوانين للحد من ظاهرة البيع الغير ملائم لبعض المشتقات المالية المعقدة ، إلا أن بعض مقدمي خدمات التحوط قد يبتدعون طرقًا أخرى للاستمرار ببيع هذه المنتجات.
نجد أن المؤسسة أيضًا تمنع بشكل صريح المضاربة على الريال السعودي عن طريق مخاطبة البنوك ، وكذلك التدخل متى ما لزم الأمر كما شهدنا مؤخرًا عندما انخفضت أسعار النفط ورأينا اضطرابًا في حركة صرف الدولار مقابل الريال (بالعقود الآجلة) ، وعندها تدخلت المؤسسة مما ساهم باستقرار السوق وعودته إلى الوضع الطبيعي .
ولأهمية التحوط بالمشتقات المالية في إدارة المخاطر للمنظمات بشكل عام ، مازلنا نطمح في أن يكون دور مؤسسة النقد أكثر فاعلية واستجابة للتغيرات الحاصلة في هذا المجال ، وتشجيع دور اللجان والإدارات المستقلة بالمؤسسات المالية الواقعة تحت مظلتها للمشاركة بشكل بناء مع الإدارة أو الإدارات التي تُعنى ببيع أدوات التحوط ، وبالتالي خلق سوق أكثر نضجًا وإدراكًا لمفهوم التحوط ومنتجاته .
مال السعودية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews