فرنسا وتاريخ من الفوضى
استيقظ الناس والشوارع الفرنسية على حرب متاريس ومواجهات، فذكرتنا باريس مركز الحراك والشغب الشعبي، باريس مدينة النور تشتعل بسرعة فتنتقل نيرانها ولهيبها لكل فرنسا، وتجتازها لما وراء المحيط في مستعمراتها القديمة. حين تشتعل باريس (المركز) فمعنى ناقوس كنيسة نوتردام يصل صدها لكل فرنسا فتستجيب الشوارع والاحياء لذلك النداء الاحتجاجي الصاخب.
باريس ظلت منذ الثورة الفرنسية حتى مرحلة كومونة باريس الى أن امتد الزمن لجيل الشباب والطلاب عام 1968، لتسقط تلك الاحتجاجات حكومة شارل ديغول.
تندلع الشرارة الشعبية من مكان ما ومن بؤرة محددة ومن دافع محدد حتى يتحول نحو مشروع واسع.
هكذا انطلق الغضب الشعبي الفرنسي الذي كان السبب الرئيسي فيه هو ارتفاع بعض السنتات في سعر ليتر الوقود، غير أن الموضوع تحول بشكل سريع وواسع نحو الغضب من النظام الضريبي برمته، في بلد باتت الطغمة الاوليغارشية تتحكم في مفاتيح المصارف والمصانع، محاولة استنزاف جيوب الفئات الدنيا والمحرومة في بلد تتسع البطالة فيه كل يوم وتدفع المدينة المضيئة بعشرات المهمشين من المهاجرين القدماء والجدد، القابعين كالفئران في مساكن اسوأ من الثكنات العسكرية، فأصبحت باريس وفرنسا في كل لحظة تخبئ في رحمها مشاريع الانفجارات الاجتماعية المؤجلة.
لم تحسن حكومة مكرون «المتوحشة» نحو الثراء في تلك الرغبة المستعجلة في استنزاف تلك الثروة لصالح جيوب الاغنياء، الذين يبتلعون مداخيل مبيعات السلاح والنفط والسياحة وغيرها من قطاعات انتاجية، في وقت تتسع الهوة الاجتماعية ويتم تدمير الطبقة الوسطى ناهيك عن الشرائح والفئات الدنيا.
ما حدث في فرنسا هز الاتحاد الاوربي والعالم، من حيث حجم المواجهة العنيفة وعدد الضحايا والجرحى الذين بلغو المئات، والغريب والجديد في هذه المواجهات العنيفة والتخريب الهائل هذه المرة لم يكن من فعل السود والمهاجرين واليسار، وإنما وجهت أصابع الاتهام لليمين الفرنسي.
ومع اتساع رقعة المواجهات في كل فرنسا شاركت جموع عديدة من المهمشين والعاطلين عن العمل وعناصر فوضوية، مما اضاف حالة من النهب والسلب للممتلكات العامة والخاصة، وساد مناخ التخريب كتعبير اجتماعي وسياسي ومعيشي لفئات المحرومين، في مدينة تضخ عشرات السلع والبذخ وتلبس حلل الرفاهية.
لهذا يظل دوماً شارع الشانزليزيه هو محور ذلك التفكير والسلوك الاجتماعي الغاضب على مدى اتساع حدة التناقض الاجتماعي والطبقي في فرنسا.
واذا ما كان شارع الشانزليزيه تعبيراً نقيضاً لأحياء معدمة وفقيرة وبائسة، فإن مهاجمته مباشرة من اصحاب السترات الخضراء ومن تبعهم من مخربين غاضبين، ترجمة حقيقة الصراع الفعلي بين المجتمع المأزوم والسلطة الخائنة المتواطئة، بين الاحتجاج الواسع العنيف بكل اطيافه المجتمعية، والاكثر انتماء وارتباط بجماعات مهنية ما عادت رواتبها ومداخليها قادرة على مواكبة الغلاء الفاحش والمستمر في مجتمع فرنسا الراهن.
هذا الانفجار مهما قيل عن من يقف خلفه ومن يدعمه ويؤيده، ومهما اختلف المثقفين والباحثين في طبيعته واسلوبه، فتلك خاصية فرنسية تاريخية، حيث تتحول الاحتجاجات السلمية الى مواجهات عنيفة ودموية.
من يعرف وقرأ تقاليد فرنسا الثورية وتياراتها الفوضوية يدرك ويتفهم حقيقة تلك الغمامة السوداء والنيران وإغلاق الطرق والبرلمان بالمتاريس والاسمنت وتحويل مدينة النور الى مدينة اللهيب والنار.
لم تكن السترات الخضراء - إلا احتقان للمجتمع المدني - وترميزا ودلالة على حالة الطوارئ والاستغاثة، من شعب ما عادت كواهله وأجوره، تحتمل المزيد من ارتفاع الاسعار وتنوع الضرائب. لذا بحاجة الانظمة السياسية في الحكم مع طغمة الرأسمال في أي مجتمع، دراسة ومعرفة كيف تمارس التنفيس السياسي والاقتصادي عن الشعب، الذي من الممكن أن يقبل ويصمت مؤقتاً عن محنته ولكنه لن يستطيع طويلاً قادراً على الصمت المطبق، متى ما وصلت سكين الازمة المستفحلة إلى حد العنق. لنتذكر عبارة ماركس التاريخية «ليس للبروليتاريا ما تخسره غير قيودها (اغلالها)!» هكذا استيقظت ذكرى الكومونة في أذهان الباريسيين عشية احتراق المدينة.
الايام البحرينية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews