ترامب وحشر التوراة في صناديق انتخابات الكونغرس
تسدد أمريكا تباعاً، وباضطراد متسارع، أثمان وضع رجل مثل دونالد ترامب في سدّة القرار الأوحد للقوّة الكونية الأعظم؛ حيث تبدأ العواقب من الداخل الأمريكي، منطقياً، ولكنها تلقائياً تنتقل إلى جغرافيات شتى ما وراء المحيط، وفي مسائل تخصّ السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع البشري، كما تمسّ الثقافات والعقائد والأديان. و«أمريكا» هنا ليست كتلة ناخبي ترامب وحدها، التي بات واضحاً أنها تتشكل من تيارات محافظة ودينية وإنجيلية متشددة ومعمدانية قصوى ومسيحية ــ صهيونية… بل هي كذلك، وعلى قدم المساواة، نقائض هؤلاء جميعاً، سواء اتخذ التناقض صفة التناحر المستعصي أم الخلاف النسبي أم الافتراق الجذري.
وبهذا المعنى فإنّ الطرود المشبوهة، التي احتوت على عبوات أنابيب ناسفة، وضعت على قدم المساواة رجل أعمال بارزاً مثل جورج سوروس (المدافع، إجمالاً، عن خطّ ليبرالي سياسي وحقوقي واقتصادي)؛ ورئيساً سابقاً مثل باراك أوباما (كان في امتيازه الأشهر أوّل رئيس اسود في التاريخ الأمريكي)؛ ومرشحة للرئاسة مثل هيلاري كلنتون (كانت منافسة ترامب، وتفوقت عليه في التصويت الشعبي على الأقل)؛ ومسؤولاً رفيعاً سابقاً جون برينان (المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية، في عهد أوباما)؛ وفضائية كونية عملاقة مثل CNN (لا يُعرف عنها توجّه ليبرالي أو محتد مناهض للمؤسسة). والقاسم المشترك بين هؤلاء واحد وحيد، كما تقول المؤشرات حتى الساعة: خصومة مع ترامب، لأسباب شتى؛ وخصومة مقابلة من جانبه، للأسباب المضادة.
والطرود هذه لا تُرسل عشوائياً، من حيث التوقيت، بل هي تستهدف المشاركة في الانتخابات النصفية للكونغرس، التي ستجري في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وتنطوي على اختيار أعضاء مجلس النواب (435 عضواً)، و34 من أعضاء مجلس الشيوخ (من أصل 100)؛ وقد تسفر عن تبديل في خريطة الأغلبية الراهنة، لصالح الحزب الديمقراطي. والطرود المشبوهة ترقى إلى مستوى الإدلاء بصوت من طراز بالغ الخصوصية، قد لا يفلح تماماً في ترهيب الناخب المعارض لصفّ ترامب، ولكن من المرجح تماماً أنه سوف يشحذ همّة ناخبيه ومؤيديه؛ ولعله سوف يبلور استقطاباً صراعياً على النمط الذي تفضّله شرائح شعبية عريضة، يتراوح بين منازلة رعاة البقر، ورياضة الـ«روديو»، والملاكمة العنيفة!
لكنّ الصوت الآخر الذي يمكن أن تستقبله الانتخابات النصفية، وهو الأخطر والأدهى، هو ذاك الذي يحشر التوراة في الصناديق، من منطلقات دينية تنبش الشخوص والرموز والحوادث من بواطن «العهد القديم»، لكنها لا تعفّ عن الهلوسة المفتوحة، ولا تنأى عن التخريف المفضوح. أبرز الأمثلة على هذا الصعيد هو جون كيلباتريك، راعي كنيسة في ولاية ألاباما، الذي يقارن بين ما يواجهه ترامب من «أعمال السحر» الخبيثة، وما واجهه الني إيليا مع إيزابيل الزانية الساحرة (في سفر الملوك 2، 9:22). يقول كيلباتريك في عظة الأحد: «حين واجه إيليا إيزابل، كان يواجه أعمال السحر. ما يحدث اليوم في أمريكا هو أنّ السحر يسعى إلى الاستيلاء على هذا البلد. إنه السحر، ولا شيء سواه»! وفي غمرة هتاف المؤمنين في الكنيسة، وتأوهات اليقين بما يقوله الراعي، يتابع كيلباتريك خيط الهلوسة فيقول: «لست سياسياً، ولكني لا أرى كيف يستطيع الرئيس ترامب تحمّل هذا كله. إنه أقوى من أيّ رجل عرفته في حياتي. ولكن اسمعوا ما قاله لي الروح القدس الليلة الماضية، وطالبني أن أخبركم به. قال: أبلغ الكنيسة أن ترامب كان طيلة الوقت يجابه آخاب. لكن إيزابل تتآمر الآن لكي تنبعث من الظلمات. هذا ما أبلغني به الروح القدس».
لكنّ «المعلّم الأكبر» الذي يقود هذا التيار، ويهيمن على ما يُسمّى «حزام التوراة» نسبة إلى سلسلة الولايات ذات التديّن الشديد والإيمان الراسخ بمقولات «المجيء الثاني» و«كنعان الجديدة» ومبادئ المسيحية ــ الصهيونية؛ كان، وسيبقى حتى غيابه جسدياً عن هذا العالم، ماريون غوردون (بات) روبرتسون، مؤسس منظمة «التحالف المسيحي»، أكثر الحركات الدينية القاعدية نفوذاً وانتشاراً، وبالتالي سيطرة على كثير من القرارات الكبرى في البيت الأبيض والكونغرس. «المعلّم» ذهب أبعد مما ذهب إليه الحواري كيلباتريك، فوضع ترامب في مصافّ يسوع، وروى لرعاياه هذه «الرؤيا»: «زارني الله في المنام ليلة أمس وأراني المستقبل. أخذني إلى السماء، وهناك رأيت دونالد ترامب جالساً على يمين الربّ مباشرة». أيضاً، استهجن روبرتسون ما تردد حول فضائح ترامب الجنسية، معتبراً أنّ الأخير «عنقاء سوف تنهض من الرماد»!
وبالطبع، يقتضي التعقل البسيط ألا تُعامل هذه الحركات والتيارات باستخفاف، من منطلقات تتكئ على «علمانية» المجتمع الأمريكي، أو ضمانات الدستور للحريات العامة، أو سلطة النظام الديمقراطي في الإطار العامّ. ذلك لأنّ الديناميات الداخلية التي تحكم مشهد الحركات الأصولية المسيحية، من الطراز الذي يقوده روبرتسون على وجه التحديد، تتجاوز بكثير المعايير الكلاسيكية التي تتيح رصد ظاهرات التشدد الديني وتأطيرها مجتمعياً، وثمة ما هو أبعد وأعمق لجهة منعكساتها، وأبعادها الهستيرية الجَمْعية تحديداً، في السلوك العام والحياة اليومية. روبرتسون، مثلاً، ليس مجرد واعظ ديني، إذْ كان مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التمهيدية لعام 1988، وحركته تضمّ ما يزيد على 1.2 مليون عضو منتسب، وتُقدّر لائحة بريدها الإلكتروني بنحو 2.8 مليون عنوان، وتدير إمبراطورية هائلة عمادها التبشير الديني المتلفز عبر عشرات الشاشات، التي بينها الشبكة المعروفة CBN، فضلاً عن «قناة الأسرة» المستقلة، والعديد من الإذاعات، وجامعة معلنة واحدة على الأقل هي جامعة ريجنت، و«المركز الأمريكي للقانون».
ولا يغيب عن هذا المشهد تفصيل حاسم هو الموقف من دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذْ تؤمن غالبية هذه التيارات والحركات بضرورة تأييد الكيان الصهيوني، اعتماداً على النظرية الشعبية الأعمّ التي هيمنت منذ القرن الثامن عشر على غالبية المنظمات المسيحية ــ الأصولية الأمريكية، والبروتستانتية الإنجيلية بصفة خاصة. وتلك، كما هو معروف، نظرية تقول بعودة يسوع إلى عالمنا هذا لتخليصه من الشرور، حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيل؛ نجاح إسرائيل في احتلال كامل أرض التوراة، أي معظم المشرق؛ إعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى؛ وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضدّ إسرائيل، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إمّا الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهّد لعودة المسيح المخلّص!
يُضاف إلى هذا أنّ الأمر لا يقتصر على التبشير التوراتي وتوظيف اليقين الهستيري، بل يتعداه إلى تشكيل الميليشيات الدينية والسياسية المسلحة، التي تضم أكثر من خمسة ملايين منتسب، وتنتظم في سلسلة تحالفات عريضة، وتلتقي حول مناهضة الصيغة الفيديرالية للحكم في الولايات المتحدة، وتدعو إلى العنف كوسيلة كفاحية ضدّ الطغيان الفيديرالي… ولا حاجة إلى التذكير بأنّ معظم هذه التوجهات اندرجت في خطاب ترامب الشعبوي خلال الحملة الانتخابية. بين المسميات التي تدلّ على طبيعة هذه المنظمات، ثمة «الأمم الآرية»، «الوطنيون المسيحيون»، «الهوية المسيحية»، «رابطة البندقية الوطنية»، فضلاً عن «التحالف المسيحي» بالطبع.
وآخاب، في التوراة، هو ملك إسرائيل الذي أغوته الوثنية إيزابل، فتزوجها وانقاد وراءها في عبادة بعل، فأرسل الرب إيليا لكي يردّه إلى جادة الصواب. وأمّا آخاب المعاصر فهو، عند أمثال كيلباتريك وروبرتسون، أولئك الذين يكيدون للرئيس ترامب، ويسلطون عليه السحرة، فحلّت عليهم لعنة كبرى وأصبحت منازلتهم واجبة، حتى لو اقتضت حشر صناديق الاقتراع بالتوراة والطرود الناسفة!
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews