تشكيل الحكومة العراقية: الوقائع والأوهام وما بينهما
مع انتهاء المدة الدستورية التي يمنحها الدستور العراقي لرئيس مجلس الوزراء المكلف من اجل تقديم حكومته ونيل الثقة في مجلس النواب (ينتهي الموعد في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر)، لا تبدو طبيعة الآليات التي ستحكم تشكيل الحكومة واضحة حتى اللحظة. كما لا يبدو واضحا كيف سيتم التعاطي مع «وزراء الأنترنيت» الذين قدموا سيرهم الذاتية عبر النافذة الالكترونية التي أعلن عنها الرئيس المكلف، وأخيرا لا يمكن للمراقب ان يعرف كيف سيتم التعاطي مع إعلان تحالف سائرون لوحده، من دون تحالف الإصلاح، بانه لن يقدم مرشحين وترك الامر للرئيس المكلف.
لكن المفارقة هنا، ان الجميع من دون أي استثناء، لا يزالون مصرين على نظام التمثيل النسبي، والذي يعرف شعبويا، بنظام المحاصصة، من خلال إصرار الجميع على اعتماد توزيع هوياتي للحقائب الوزارية. وهذا يعني أن المعادلة التي حكمت تشكيل وزارة العام 2014 نفسها، ستحكم تشكيل الحكومة القادمة. فقد تشكلت الحكومة عام 2014 من 32 حقيبة وزارية توزعت كالآتي: 17 وزارة من حصة الاحزاب الشيعية، و 8 من حصة القوائم السنية، و 5 حقائب من حصة الاحزاب الكردية، مع حقيبة واحدة للأقليات (يزيدي)، وحقيبة غير قابلة للتصنيف (كردي مرشحا عن قائمة أياد علاوي السنية!). وقد تمت المحافظة على المعادلة نفسها في الترشيق الوزاري الذي اعتمده الدكتور حيدر العبادي عام 2016، إذ توزعت الحقائب ال 22 كالآتي: 12 حقيبة للأحزاب الشيعية، و 6 للقوائم السنية، و 3 حقائب للأحزاب الكردية، وحقيبة واحدة للأقليات. ومن المؤكد ان هذه المعادلة ستحكم وزارة السيد عادل عبد المهدي أيضا، مع تعديل طفيف بعد الأنباء عن إضافة وزارتين ملغيتين هما وزارة السياحة والمرأة إلى الكابينة القادمة. وهذا يعني أن الوزارة القادمة ستتوزع كالآتي: 13 شيعية، 6 سنية، 4 كردية، وواحدة للأقليات.
المفارقة الثانية هنا أن هذا التوزيع لا يعكس طبيعة التمثيل الهوياتي في مجلس النواب بأي حال من الاحوال! بل هو استمرار للمعادلة التي قننت في مؤتمر لندن (كانون الاول/ ديسمبر 2003)، و التي تم فيها توزيع الأعضاء ال 65 في «لجنة المتابعة والتنسيق» التي انبثقت عن المؤتمر، وفق التوزيع الآتي: الشيعة 50+ 1، السنة والكرد 20٪ لكل منهما، والبقية للأقليات.
فقد تشكل مجلس الحكم الذي أنشأته سلطة الاحتلال، والذي تكون من 25 عضوا وفق هذه المعادلة (13 شيعة، 5 سنة، 5 كرد، 2 للأقليات)! وقد جرى الالتزام بهذه المعادلة في الحكومة المؤقتة التي ترأسها أياد علاوي (33 وزيرا: 17 شيعة، 7 سنة، 7 كرد، 2 للأقليات)! وهو ما تم اعتماده تماما في الوزارة الانتقالية التي ترأسها ابراهيم الجعفري (33عضوا، 17 شيعيا، 7 سنة، 7 شيعة، و2 للأقليات)! وحافظت هذه المعادلة على حضورها في وزارة السيد نوري المالكي الاولى (14 شيعة، 7 سنة، 7 كرد، 1 للأقليات، 1 للحزب الشيوعي!)، وعلى الرغم من ان التوزيع قد تغير بداية من العام 2010، من خلال زيادة الوزارات السنية على حساب الوزارات الكردية، إلا أن المعادلة نفسها ظلت حاضرة! فقد تشكلت وزارة المالكي الثانية بعد الترشيق، كالآتي: (17 شيعية، 9 سنية، 5 كردية، 1 أقليات).
المفارقة الثالثة، انه في سياق هذا التوزيع الهوياتي على مستوى الوزارة ككل، كان هناك دائما توزيع هوياتي يحكم وزارات بعينها، وهذا التوزيع سيحكم الحكومة القادمة بكل تأكيد، فالوزارات الأمنية تقسم على أساس هوياتي ايضا: الداخلية للشيعة، والدفاع للسنة! ولم ينجح مسعى تحالف المحور الوطني في تدوير الوزارتين! ويحكم التوزيع الهوياتي ايضا الوزارات السيادية الثلاث المتبقية؛ الخارجية والنفط والمالية، فهذه الوزارات ستوزع على المكونات الرئيسية الثلاثة بالطريقة نفسه: الشيعة والكرد والسنة، وإذا ما حدث خلل في التوزيع، كما حصل في العام 2014، سيتم إدخال وزارة التخطيط كوزارة سيادية للحفاظ على المعادلة سليمة! ثم هناك التوزيع الهوياتي لوزارتي التربية والتعليم العالي سنيا وشيعيا، فللدورة الثالثة هناك رغبة مشتركة في عدم تدوير الوزارتين!
المفارقة الرابعة التي ستنفرد بها الوزارة القادمة ربما، هي التوزيع الجهوي! فثمة إرادة لتوزيع الوزارات على أساس المحافظات، وهذا التوزيع، غير المفهوم وغير المسوغ، سيكون إضافة لأساس جديد إلى مبدأ التمثيل النسبي! في سياق هذه الوقائع الحاكمة، تبدو التصريحات السياسية التي تدعو لاعتماد أسس جديدة في تشكيل الحكومة، مجرد اوهام او امنيات لا مكان لها على أرض الواقع. تماما كما هو الحال في البروباغاندا الخاصة بالدعوة لتشكيل حكومة مكونة من وزراء «مستقلين» او «تكنوقراط». هذا فضلا عن أن البطء الذي حكم تشكيل الحكومة، لن يتيح لرئيس مجلس الوزراء المكلف الوقت الكافي للتدقيق في أسماء المرشحين، وبالتالي سيكون محكوما بالنهاية بالترشيحات التي تقدمها له الاحزاب والكيانات السياسية، حتى وإن تمتع بصلاحية مطلقة في رفض هذه الترشيحات، فالتوقيتات الدستورية ستكون هي الحاكمة في النهاية.
لقد تحدثنا في مقالة سابقة عن الوقائع السياسية وشروطها، وقلنا فيها أن الجميع سيحتكم في النهاية إلى القواعد نفسها التي حكمت تشكيل الحكومات الثلاث السابقة في الأعوام 2006 و2010 و2014، وقلنا أيضا إن هذه الوقائع ستفرض نفسها على الفاعلين الأمريكي والايراني، وبالتالي سنشهد بالضرورة توافقا ضمنيا أمريكيا ـ إيرانيا على الحكومة العراقية القادمة بعيدا عن المواجهة الحاصلة بينهما! وما زالت المؤشرات جميعها تشي بهذه الحقيقة!
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews