مرارة سياسة التجهيل في العراق
التجهيل لا يستهدف فقط صرف نظر الشعب عما تمارسه الطبقة السياسية من انحراف وفساد، وإنما لتعزيز الأهداف الاستراتيجية في الانقضاض على كيان العراق.
ما يمر به العراق ليس تعبيرا عن هيمنة نظام سياسي أوجده الاحتلال الأميركي لتتحكم فيه الأحزاب الدينية التي أوصلت هذا البلد إلى حالته الموحشة فحسب، بل إن ما يجري فيه منذ 15 عاما هو عمليات تهديم مقصودة ومترابطة بين المادي والبشري، وإحلال بدائل تمنع الشعب من أن يكون حاله حال الشعوب الأخرى في المنطقة والعالم في الحياة اللائقة به وبتاريخه وبمكانته، في عصر أصبح التنافس فيه بين شعوبه قائما على التمكن من المعرفة والعلم وتعزيز التواصل الإنساني والاستفادة من الموروث الإنساني الهائل في تخليص البشرية من كهنوت وهيمنة القوى الدينية، وانطلاقها نحو الحرية والديمقراطية واعتماد المعرفة والعلم لخدمة الإنسان.
ما حصل في العراق لم يكن هدفا سياسيا في القضاء على نظام صدام حسين لمجرد أنه كان مستبدا أو خصما لدودا لحزب الدعوة، بل كان الهدف تدمير كل مقومات العراق الذي لم يقف تنوعه الديني أو المذهبي أو العرقي أمام وحدته الاجتماعية وإعلاء هويته الوطنية. المخاطر التي تهدد هذا البلد لا تنحصر في نهب ثروات شعبه التي تشكل قاعدة النمو والتطور وحجبها المتعمد، وتحويلها إلى أرصدة قادة ومسؤولين كبار في الأحزاب الحاكمة. المخاطر الجدية هي مخطط تجهيل العقل العراقي ومسخ قيم أهله، وتحطيم جميع مقومات التواصل والمحبة بينهم، وقطع صلتهم بالتاريخ الطويل الذي جمعهم واستبعاد فصوله النيرة التي ارتبطت بأسماء لامعة من زعاماته الإسلامية في العهود الإسلامية المختلفة، وإحلال وقائع مجتزأة من ذلك التاريخ تنمي الكراهية وتغلفها بطقوس مغالية لا ترتبط بالمعاني التي حملتها مسيرة صحابة الرسول محمد (ص) والقيم العميقة لاستشهاد الحسين رمز الثورة على الظلم والاستعباد، والعمل المنظم على تكريس ثقافة طائفية هدفها استخدام الدين كوسائل سياسية لتحطيم كل مقومات الوحدة الوطنية لمنع نهوض أبناء العراق.
إيران هي المحرك الرئيسي لهذه النعرات الضارة، ولديها مجاميع وجهات وجمعيات عديدة لتحويل فعاليات الموروث الشيعي النبيلة، إلى دعوات لتخريب الدين الإسلامي وإلى عناصر للفرقة والاحتراب، وهي بذلك لا تختلف عما قام ويقوم به تنظيم داعش من تخريب وتشويه للإسلام في الجانب السني.
وهناك مشاهد وأحداث مؤلمة تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي عن حملات لبعض المعممين، وما أكثرهم هذه الأيام، يعتلون المنابر وسط مجاميع من الجهلة ويطلقون دعوات تحريف المصدر الأول للإسلام وهو القرآن والمبالغة في أحداث تاريخية مرت عليها أكثر من 1400 سنة تتعلق بمسيرة صحابة النبي عليهم السلام. بل أصبحت قصة شتم الصحابة جزءاً من تلك الحملات الدعوية الشيعية والشيعة منهم براء.
وخلال مناسبة عاشوراء هذا العام تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد مصورة للعديد ممن يطلق عليهم الرواديد، (مفردها رادود) وهم أشخاص لديهم قدرة على الإلقاء والتأثير في من حولهم من “اللطامة” تشبه إلى حد كبير تأثير الممثل على المسرح حين يلقي قصيدته الشعبية بألحان خاصة بالمواكب الحسينية، تنطلق مضامينها من الحوادث الخاصة بقصة الحسين وأهله وعكسها على الأوضاع السياسية الحاضرة، وهؤلاء الرواديد ظهر من بينهم من أصبحت له شعبية كبيرة في الأوساط الشيعية المحلية.
وقف أحدهم قبل أيام وهو يروي وفق هذه الطريقة الدرامية قصة “إن الله سبحانه وتعالى قد خلق عليّا بن أبي طالب قبل خلقه لآدم”. وذكر هذا الرادود تفصيلات قصة حضور الإمام علي في حضرة خالق الكون، وإن الله أعطى عليّا حرية التصرف بخلق الكون وشؤون الشمس والقمر والليل والنهار، وتفصيلات أخرى أقل ما يقال عنها إنها شرك وإبطال للقرآن الكريم ونفي لنبوة محمد وهي إهانة مباشرة للصحابي علي بن أبي طالب.
ومثل هذه البدع قد تجد بين بسطاء الناس من يقتنع بها في ظل أجواء التأثير العاطفي المشحون بالتجهيل المتعمد، ولا ننسى أن مواقع يوتيوب وفيسبوك وتويتر وغيرها أصبحت اليوم لها فعلها بين أوساط الشباب ولها تأثيرها الخطير في الرأي العام وهي ليست محصورة بظرفها المكاني المحدود. وتتم مثل هذه الفعاليات بعلم الحكومة وأحزابها، وأضرارها لا تقل عن أضرار سرقة المال العام والفساد ومنع الخدمات عن الناس، بل هي أخطر من ذلك. ولو كانت هذه الأحزاب غير راضية عن هذه التيارات التخريبية لمنعت تلك المظاهر استناداً إلى ديباجة الدستور الذي شرعوه، وهو دستور مانع لسيادة دعوات الكراهية وتفكيك المجتمع طائفيا.
مثل هذه الفعاليات ليست معزولة عن مشروع محو تاريخ العراق وامتداده العميق في الحضارة العربية الإسلامية، وهناك مثال أكثر إيلاما في هذا المسلسل الخطير حصل قبل أيام حين احتج أحد زعماء حركة إسلامية شيعية عراقية وعضو في البرلمان الجديد على اعتزاز العراقيين ببغدادهم التي بناها أبوجعفر العباس وأعزها هارون الرشيد، وطالب بمحو هذه الذاكرة وطلب أن تستبدل بقصص مزورة مغلفة بالطائفية، دون أن يردعه رئيس البرلمان الجديد عن هذه الإهانة المباشرة لأهل العراق وعاصمته.
فالتجهيل لا يستهدف فقط صرف نظر الشعب وقوته الشبابية عما تمارسه الطبقة السياسية من انحراف وفساد، وإنما لتعزيز الأهداف الاستراتيجية على مستوى الانقضاض على العراق وتاريخه وعلى حركة النهضة التي حصلت فيه خلال المئة عام الماضية. إن الأحزاب الإسلامية هي المستفيد الأول من هذا المشروع التجهيلي الذي تدعمه إيران بقوة لكي لا ينهض العراق، لأنها تعرف أن نهضته إعاقة لمخططات مشروع ولاية الفقيه، لكن رد الفعل الشبابي الذي انطلق من البصرة هو نموذج رائع على الوعي، ومشروع التجهيل القاسي لن يستمر طويلا.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews