مسكين توفيق الطيراوي!
أبدى بعض الفلسطينيين صدمة من الأخبار التي تحدثت عن تجسس المخابرات الفلسطينية على رئيسها السابق، توفيق الطيراوي، وعلى عدد من الشخصيات المهمة الأخرى.
بالعاطفة، نعم، الخبر مثير للدهشة والاستياء لأنه يكشف عن تنصت على هواتف شخصيات يُفترض أنها محصنة ومهابة الجانب، على رأسها الطيراوي الذي قاد واحداً من أجهزة الاستخبارات الفلسطينية أكثر من 14 عاما. كما أنه يحدث في أوساط (فلسطينية) تحمل لواء بقايا ثورة رومنسية والأحرى، نظريا على الأقل، أنها يجب أن تحمي أبناءها بدلا من التجسس عليهم.
بالعقل، لا. هو خبر عادي، ولا يجب أن يثير أي استياء أو استغراب. هو خبر يتناسق تماما مع المزاج الإقليمي والدولي الموبوء بصراعات متعددة الأشكال ما كان لها أن تستمر لولا أن التجسس شكّل إحدى أدواتها الأقوى. الكل يتجسس على الكل، الأعداء على بعضهم، والحلفاء في ما بينهم. والأمر متداخل ومعقد حتى يصبح أشبه بشبكة عنكبوت تلغي أي سبب للاستغراب.
العالم يعيش حروب المعلومة، لأن الذي يمتلكها يمتلك أحد مفاتيح القوة والنصر الاقتصادي والاستراتيجي والعسكري. أمريكا تتجسس على أوروبا، وأوروبا تتجسس على روسيا، وروسيا تتجسس على الكل، وتركيا تتجسس على أوروبا، وأفريقيا تتجسس على تركيا.. إلخ. حتى داخل التكتلات والفضاءات التي، من الخارج تعطي الانطباع بالتجانس والتقارب، لن يكون مستغربا لو تأكد يوما ما أن فرنسا تجسست على إيطاليا في ذروة تعاون أمني بينهما، أو أن ألمانيا تجسست على فرنسا في أبهى فترات التقارب بينهما، أو السويد تجسست على ألمانيا، أو أسبانيا تجسست على بولندا، وهكذا. ولن يكون مستغربا لو يتأكد كذلك أن أجهزة أمن واستخبارات في البلد الواحد، وليس ضروريا أن يكون متخلفا أو يعيش صراعات داخلية، تجسس بعضها على بعض. أو أحدها تجسس على وزراء أو أعضاء بالبرلمان وعلى مسؤولين كبار في الدولة.
المستغرب هو ألا يحدث هذا التجسس، أو يتوقف تحت ذرائع وشعارات طنانة لكن عقيمة. ذلك يعني وجود تقصير في عمل هذه الأجهزة. المنطق الغالب في السياق هذا هو أن التجسس على كبار رجل الدولة والحكم الهدف منه حمايتهم ومن ورائهم الدولة ومصالحها. فبما أنهم، بحكم مسؤولياتهم، يحوزون أسرارا ومعلومات حساسة وخطيرة، هم عرضة للاستهداف مع هامش من الخوف من احتمال أن أحدهم قد يسقط فريسة للإغراء. بالمنطق ذاته، مصلحة الدولة تسمو فوق مصلحة الفرد، وهي أقوى وأبقى من كل شعارات الرومنسية السياسية والحقوقية.
هناك أيضا مستوى جديد من التجسس تجاوز التقليدي وأصبح أخطر منه. هذا يعيش مع عامة الناس وتمارسه بحقهم على مدار الساعة واليوم كبريات شركات التكنولوجيا الرقمية وخدمات الإنترنت. شركة غوغل وشقيقاتها تتجسس علينا جميعا، ونحن نتبرع لها بتقديم الخدمة والمعلومة التي تجعلنا عراة أمامهم: من أسماء وعناوين أصدقائنا وزملائنا ومعارفنا، إلى كلمات سر حساباتنا ومراسلاتنا، فهواياتنا وميولنا في الحياة، وحميتنا الغذائية ووزننا والمسافات التي نمشيها على الأقدام يوميا ومواقع انتشارنا الجغرافي.. وغير ذلك مما قد لا نعلمه ولا يتسع له إدراكنا العلمي والتكنولوجي. وهي كلها معلومات ينتهي بها المطاف في خزائن وكالات الاستخبارات والأمن في أمريكا والغرب، ضمن تعاون أمني وثيق لا ينقطع، تمنعه، نظريا، قوانين مدنية تتضمن هي ذاتها ثغرات استمراره.
عندما يتيح «فيسبوك» خدمة «المسنجر» لأطفال في السادسة، فهو ببساطة، يضع اللبنة الأولى في رحلة السيطرة والتحكم في أجيال المستقبل. هذه طريقة جديدة ستُغني عن الطرق التقليدية في الجوسسة وتوفر أموالا وجهوداً كانت الأخيرة تتطلبها. ولن يغير في شيء تغنّيه بأن الموضوع تحت السيطرة وأن عمل «المسنجر» سيكون تحت الرقابة الكاملة للأولياء (هم ذاتهم ضحايا!).
هذه إحدى النتائج الطبيعية للثورة المعلوماتية التي يشهدها العالم. وإذا كان الهاجس الأمني محفزا لانتشار هذه الممارسات والانتهاكات، فبدونه كان سيحل الهاجس الاقتصادي ـ الاستهلاكي محل المحفز.
في الحالة الفلسطينية، تبدو مضحكة شكوى اللواء توفيق الطيراوي من أن تنصت المخابرات الفلسطينية، بقيادة (اللواء الآخر) ماجد فرج، على هواتفه. ومضحك أكثر رفعه دعوى قضائية أمام محاكم قد يكون قضاتها ذاتهم ضحية تنصت مماثل أو أسوأ. وأشبه بالنكتة قوله إن التنصت «انتهاك فاضح للحريات الشخصية، واعتداء على القيادة الفلسطينية». عن أيّ حريات يتكلم هذا الرجل وهو الذي عاش وعمل وتقاعد في منظومة ليس فيها غير التجسس وانتهاك الحريات الشخصية؟ بأيَّة سيادة لأية قيادة يتغنى وقائدها (ياسر عرفات) قُتل مسموما في واحدة من أقذر عمليات الجوسسة في المئة سنة الأخيرة؟
تنطبق على الطيراوي مقولة «كما تدين تدان»، لأن لا عاقل فوق الأرض سيصدّق ادعاءاته أن «الجهاز» في عهده لم يتجسس على المسؤولين الفلسطينيين والناس العاديين، وبأنه لم ينسق مع إسرائيل وحكومات مجاورة تحت دواعي الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، حتى لو كان «المستهدف» فلسطينيا. تمسكه بهذا الادعاء دليل على أنه إما يكابر أو جاهل بتفاصيل عمل رجاله. وفي الحالتين يمثل هذا المسكين دور المثالي في عالم غير مثالي شارك هو ذاته في صنعه ورعايته.
القدس العربي 2018-02-13
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews