تعويم الجنيه وتدفق الاستثمارات

خلال الأيام الـ 10 التالية لتحرير سعر صرف الجنيه في 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، بلغ صافي تدفق النقد الأجنبي إلى مصر نحو 1.5 بليون دولار، ووصف نائب وزير المال أحمد كوجك الأمر بأنه يعادل 10 إلى 15 ضعفاً حجم التدفقات التي كانت تصل البلاد قبل التعويم. وخلال الفترة ذاتها وبدلاً من ان يلجأ المستوردون كما في السابق إلى السوق السوداء لتلبية احتياجاتهم من الدولار، اعتمدوا على المصارف التي أمنت لهم اعتمادات مستندية بقيمة 2.2 بليون دولار.

وحققت البورصة المصرية مكاسب فاقت 30 في المئة، مع تسابق المستثمرين الأجانب على شراء أسهم وأصول مصرية، نظراً إلى انخفاض تكلفتها، وهو المعدل الأعلى في تاريخ البورصة منذ العام 2007. وزادت حيازات الأجانب من أدوات الدين الحكومية 700 مليون - 900 مليون دولار، حتى ان المستثمرين الأجانب الذين سبق ان انسحبوا من سوق أذون الخزانة المصرية بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، يستعدون لضخ استثماراتهم مجدداً والتي قد تصل إلى 10 بلايين دولار.

كل هذه المؤشرات الإيجابية، حصلت مع بدء مسيرة تعويم الجنيه وتسلم المصرف المركزي الشريحة الأولى من قرض صندوق النقد البالغة 2.75 بليون دولار من أصل 12 بليون دولار هي القيمة الإجمالية للقرض، على أمل تسلم الشريحة الثانية وقيمتها 1.25 بليون دولار في نيسان (أبريل) 2017، إضافة إلى قروض خارجية متعددة ومتنوعة تصل قيمتها إلى أكثر من ستة بلايين دولار، وساهم كل ذلك في تحسن سعر صرف الجنيه «المعوم» من 18 جنيهاً للدولار إلى نحو 15.35 جنيه. لكن في الأسبوع الثالث من الشهر الحالي عاد سعر «دولار القاهرة» إلى الارتفاع متجاوزاً 18 جنيهاً، الأمر الذي يتطلب استقراراً نقدياً كشرط أساسي لجذب المستثمرين.

لا شك في ان تعويم الجنيه مع ارتفاع أسعار الفائدة وتحقيق سلسلة إصلاحات اقتصادية، وفق برنامج صندوق النقد، بالإضافة إلى إعفاءات ضريبية وحوافز وتسهيلات للمستثمرين تضمنها 17 قراراً اتخذها المجلس الأعلى للاستثمار في اجتماع عقد في 1 تشرين الثاني برئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسي، كانت كلها عوامل مشجعة للاستثمار في مشاريع متنوعة ومتعددة في مختلف القطاعات الاقتصادية، لكنها ليست كافيه لتأمين الاطمئنان للمستثمرين إذ ثمة عوامل أخرى أهمها الأمن والاستقرار السياسي والمالي، وهي مرتبطة بتطور علاقات مصر السياسية إقليمياً ودولياً خصوصاً مع الدول العربية.

في آذار (مارس) 2015 عقد مؤتمر شرم الشيخ تحت عنوان «دعم وتنمية اقتصاد مصر المستقبل»، وأكد في نهايته وزير الاستثمار المصري أشرف سالمان ان المؤتمر حقق أول هدف له بوضع مصر على «خريطة الاستثمار العالمي». أما حجم الاستثمارات التي حصدتها مصر فبلغ نحو 60 بليون دولار، وتنقسم إلى عقود استثماريه بقيمة 36.2 بليون دولار، ومشاريع متفق عليها وممولة بقيمة 18.6 بليون دولار، يستحق تسديدها بعد سنوات طويلة، إضافة إلى قروض بقيمة 5.2 بليون دولار من صناديق ومؤسسات دولية جرى توقيعها مع وزارة التعاون الدولي، فضلاً عن التزامات بدعم خليجي مقداره نحو 12.5 بليون دولار من حكومات السعودية والإمارات والكويت وعُمان.

وإضافة إلى استثمارات عربية، خُصص قسم منها للمستثمرين في القطاع الخاص، تسلمت مصر أكثر من سبعة بلايين دولار من أصل التزامات الدعم الخليجي. وانعكس التدفق الاستثماري إيجاباً على مصر التي احتلت المرتبة الثالثة على لائحة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إلى الدول العربية بنهاية 2015 بحصة بلغت 6.88 بليون دولار بزيادة نحو 50 في المئة عن 2014، وذلك بعد الإمارات وحصتها البالغة 10.97 بليون دولار والسعودية وحصتها 8.14 بليون دولار، وذلك وفق دراسة للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات.

واستمرت حركة الاستثمارات للقطاع الخاص في مصر في 2016، إذ بلغت استثمارات الشركات وفق إحصاءات وزارة الاستثمار، خلال الشهور التسعة الأولى نحو 9.6 بليون دولار موزعة بين 1.7 بليون دولار للشركات العربية والأجنبية و7.9 بليون دولار للاستثمارات المحلية. أما بيانات المصرف المركزي المصري عن الاستثمار الأجنبي، فقدرت الرقم بنحو 5.8 بليون دولار، ويعود اختلاف الرقمين إلى اختلاف طريقة حساب الاستثمارات.

لكن على رغم كل هذه التدفقات الاستثمارية، تراجع سعر الجنيه بنسبة كبيرة حتى تجاوز 18 جنيهاً مقابل الدولار، مع الإشارة إلى أهمية ارتفاع حجم احتياط المصرف المركزي من نحو 15 بليون دولار في آذار (مارس) 2015 إلى 19 بليون دولار بنهاية تشرين الأول (أكتوبر)، فضلاً عن وفاء مصر التزاماتها المالية بدفع كل أقساط الديون المستحقة عليها في مواعيدها خلال تلك الفترة، وتأمين العملة الصعبة لتمويل الاستيراد.

ويمكن في هذا المجال الإشارة إلى تقرير أصدرته مؤسسة «نيلسن» المتخصصة في إصدار مؤشر ثقة المستهلك في 63 دولة، وجاء فيه ان المؤشر في مصر سجل 70 نقطة خلال الربع الثالث من العام الحالي، وهو اقل بمقدار 29 نقطة عن متوسط المعدل العالمي البالغ 99 نقطة، ويعد الأقل مستوى منذ أكثر من 10 سنين. وأوضح المؤشر ان 22 في المئة من المصريين يرون ان الاقتصاد يمثل اكبر مخاوفهم في السنة المقبلة، في حين يعتقد معظم المصريين (81 في المئة) بأن مصر في مرحلة ركود.

كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية

(المصدر: الحياة 2016-12-01)