عالمثالثية: دونالد ترامب… وعالمه وتفويضه
أن يحتفظ دونالد ترامب لنفسه بالحق في التشكيك بنزاهة العملية الإنتخابية ونتائجها إلى ما بعد الفرز، وأن تجاريه نسبة واسعة من القاعدة الناخبة الجمهورية في ذلك، فليس هذا بالأمر العابر بالنسبة إلى تاريخ الولايات المتحدة، أو بالنسبة إلى مآل الديمقراطية التمثيلية.
أن يتوعّد ترامب قبل ذلك غريمته في المناظرة، وفي المنافسة على المنصب القيادي الأرفع في كوكب الأرض، هيلاري كلينتون، برميها في السجن، إذا ما حالفه الحظ وفاز، عقاباً لها على استخدامها البريد الألكتروني الخاص بـ»الشغل» لأمور شخصية، وأن يضيع هذا التفصيل، أو يؤخذ كدعابة، في زحمة الفاقع والنافر من تصريحات له، وما تلاها من ارتفاع أعداد النسوة اللواتي وجهن له تهماً بالتحرّش، وأن تأتي تبرئته لنفسه سوقية بامتياز، فكل هذا يتجاوز اشكالية المرشّح الذي يجعل من خرق «البولتكلي كوركتنس» (السويّ أو المناسب قوله سياسياً) زاده وعدّة نصبه.
ترامب شخصان في شخص: صادق ونصّاب. صادق يتخفّى في محيّا النصّاب وكلامه. هو نصّاب بطبيعة الحال عندما يقدّم نفسه كـ «منقذ» لأمريكا المعرّضة قوّتها للأفول، جراء سياسات الحزب الديمقراطي. لكنه صادق في «التصور عن العالم» الذي يحمله. هو عالم تتسلسل فيه المفارقات: اولها، أنّه يتبارى في أهم منازلة ديمقراطية متاحة في عالمنا، الإنتخابات الأمريكية، وكان مصمّماً على أن يبقى في السباق حتى لو لم ينل تأييد الحزب الجمهوريّ، لكنه وللعلّة نفسها، وكون طموحه غير مشروط في السابق باستحصاله على تأييد الحزب، وغير مشروط لاحقاً بنتائج الانتخابات، فإنّه لا يأخذ الديمقراطية بجدّية. نحن أمام أوّل ظاهرة تتقدّم بهذا الزخم إلى هذا المنصب القيادي الخطير وتتفاخر بعدم أخذها الديمقراطيّة بجدّية في الوقت نفسه، إلا إذا سلكت هذه الديموقراطية اتجاهاً واحداً، هو اتجاه تفويضه هو كمنقذ، لليمين الجمهوريّ في مرحلة أولى، وللامبراطورية الأمريكية في مرحلة ثانية.
المفارقة الثانية أنّه يشنّ حملة عاتية ضدّ تسلّل الثقافات والأجناس والديانات «العالمثالثية» إلى أمريكا، لكن نموذج «الرجل الأبيض» الذي يقدّمه يأتي «عالمثالثياً» بامتياز. لا وزن يقيمه لبقايا «المبدأ الأريستوقراطي» في التراث اليميني المحافظ. هو أشبه بمقاول سريع الثراء ينزل لانتخابات مجلس الشعب في عهد حسني مبارك. مواقفه المحافظة غير مقرونة بأي لمسة «تقوى»، ولو كانت تقوى على منهاج سارة بيلين.
لا يعني هذا أنّ ثمّة خطرا مباشرا على الديمقراطية في أمريكا حتى لو وصل ترامب، ومستبعد وصوله. وبالرغم من كونه يترشحّ على الرئاسة في بلد بنظام رئاسي، إلا أنّه «لا يتحايل على الديمقراطية» (التهمة الموجهة تقليدياً للنازيين في ألمانيا)، كل ما هناك أنّه يهزأ بها، ولا يأخذها بجديّة. في المقابل، ما يستأثر اهتمامه هو «الإستقلال الأمريكي». يتعامل مع أمريكا كبلد لم ينل بعد استقلاله بالشكل الكافي. كبلد مهّدد استقلاله من أوروبا والحضارة الإسلامية والمكسيكيين والنساء. المفارقة هنا أنّ التهمة التي توجّه له في المقلب الآخر، بدءاً من باراك اوباما، هي أنّ ترامب «يتخابر لحساب موسكو»، وأنّه يمثله تهديداً روسياً بالوكالة، للديمقراطية الأمريكية! ليس شائعاً اتهام مرشّح منافس، في أقوى دولة بالعالم، بأنّه ينسّق مع خصم لدود، الروس، في هجماتهم الألكترونية ضدّ الحزب الديمقراطي وحملة هيلاري! هذا التراشق شائع في العالم الثالث، وفي البلدان الصغيرة منه أكثر من تلك الكبيرة.
اذا ما أخذ منحى استطلاعات الرأي بالإعتبار، لا تظهر حظوظ عالية لترامب لدخول البيت الأبيض، لكن تكذيب استطلاعات الرأي بدلاً من تصديقها، هو معيار من معايير قياس الديمقراطية في عصرنا، والا كان بالمقدور الاستغناء عن محورية صناديق الاقتراع، والتعكيز على محورية الاستطلاعات، واعتبارها كفيلة بتشكيل المناخ العام، الذي لن يلبث الصندوق أن يمنحه البيعة. كما أن المقابلة بين توقعات الاستطلاع وبين ما ستخرج به الصناديق لها ميزة خاصة في هذه المبارزة بالذات: اذ يفترض أنّ هناك مروحة من الناخبين يتردّدون في إشهار تأييدهم الصريح لترامب على مسافة أسابيع من الانتخاب، بما أنّه مرشح إشكاليّ. هل ستكون نسبة ملحوظة أو عرضية؟ يصعب التوقع منذ الآن. لكن الجو العام لا يوحي بأنّنا أمام حظوظ عالية لوصول ترامب، إلا إذا طرأ ما يستأهل تعديل المناخ في الأيام الباقية.
مع هذا نحن أمام مرشح يشكّك سلفاً بالنتائج. هل فقط لأنه متجه إلى الخسارة؟ ليس فقط. هل فقط لأنّه مشكّك بأساس اللعبة الديمقراطية؟ ليس فقط. انه قبل كل هذا تذكير بأنّه في فترة بعد الحرب الباردة، فترة تفوق الولايات المتحدة الكوكبي، ظهرت الانتخابات الأمريكية من جهة كأهم استحقاق ديمقراطي في العالم، وكاستحقاق يعاني من «مشكلة تقنية» تجاوزتها إلى حد كبير الديمقراطيات الغربية الأخرى. ففي أمريكا، وبعكس أوروبا، حصل أن دخل فرز الأصوات خريف 2000 محنة مضنية، لم يحسمها لصالح جورج دابليو بوش غير القضاة. ومن يومها، وتقارب نسبة الأصوات في بعض الولايات المتأرجحة، في مقابل ثبات نسبي لتوزع خارطة معظم الولايات بين الجمهوريين والديمقراطيين، هو كابوس حقيقي: كابوس أن يكون أكبر استحقاق ديمقراطي في العالم محدود القدرة على تعيين الفائز فيه بدقة. ومع أن ترامب لا يبدو قريباً لهذه الدرجة من تكرار سياق التقارب الشديد في أصوات بعض الولايات المتأرجحة، فإنّه يحتفظ بهذا الكابوس منحى عن سياقه، ويعتبر أنّه، وحتى لو لم تقارب الأصوات، فإنّه صاحب حق في التشكيك الاستباقي بالاستحقاق، والى أحلال هالة «نظرية المؤامرة» محل القضاة الدستوريين.
يعكس ترامب، على طريقته وفي نطاقه، أزمة في الديمقراطيات التمثيلية تتجاوز الاستحقاق الرئاسي الأمريكي وأمريكا نفسها، لتطال مدى قدرة الديمقراطية التمثيلية على «تحيين» شرعيتها بحيوية. تواجه الأنظمة التمثيلية عبر العالم بمنافسة جدية من الأنظمة التفويضية، ومن النماذج التفويضية الشعبوية داخلها، ويواجه التوسع الديمقراطي على الصعيد العالمي انسداداً لا يشبه تتابع موجات التوسع الديمقراطي من اسبانيا والبرتغال واليونان في السبعينيات، إلى اوروبا الشرقية اواخر الثمانينيات، إلى اندونيسيا وكوريا الجنوبية، إلى جيورجيا واوكرانيا.
ليست «تفويضية» دونالد ترامب من نفس نوع تفويضية فلاديمير بوتين. في روسيا، الحكم التمثيلي قضى نحبه لصالحه الديمقراطية التفويضية: بدل أن يوكل الناخبون بعضاً منهم بحكم يجري تداوله، يتنازلون عن حقهم في التوكيل من الأساس، لفلاديمير بوتين، رئيساً مرة، ورئيس وزراء مرة أخرى. لكن الفكرة أنّ «التواصل المباشر» مع القائد المنقذ يسوق لنفسه على أنّه «ديمقراطية فورية» وغير متكلفة عناء الفصل بين السلطات، أو تداولها، ومتدبرة لتجديد النخب أولاً بأول، بهمّة رأس الدولة المزمن.
ترامب بعيد جداً بطبيعة الحال عن نيل مثل هذا، حتى لو فاز. لكنه في الوقت نفسه يسوّق لمنطق التفويض عينه: منطق «التواصل المباشر» مع «المنقذ»، والديمقراطية الحميمية الفوريّة هذه. والأهم، يسوّق لهذا المنطق أياً كانت نتيجة حملته الانتخابية. فمن الآن وصاعداً لن ينفع الترداد بأنه لا بديل عن الديمقراطية التمثيلية رغم كل سيئاتها، ما دام هناك من يقدّم البديل على أنّه تفويض شعبي إلى قائد بعينه، بقيم «ديمقراطية تواصل» مع الناس، بدلاً من «ديمقراطية التداول».
ان شبح «الديمقراطية التفويضية» يحضر أكثر فأكثر في عالم اليوم.
(المصدر: القدس العربي 2016-10-24)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews