الحد الأقصى للأجور.. مرحباً بأنصاف المحترفين

يتابع الملايين مباريات كأس العالم وسط انبهار وعشق لروح المنافسة بين الفرق ومهارات اللاعبين ومفاجآت المونديال التى لا تنتهى وفى حقيقة الأمر هم يتابعون حصاد الاحتراف فى اللعبة الشعبية الأولى عالمياً فلا مكان للهواة وأنصاف المحترفين أو هؤلاء الذين يصعدون للمقدمة بالصدفة.

ستتوالى المفاجآت ولكن من سيفوز بكأس العالم هى إحدى الفرق التى تضم لاعبين ومديرين ومدربين محترفين يلعبون فى أندية ودول لديها بطولات منظمة يديرها محترفون فى اللعبة التى باتت منظومة مالية واستثمارية على مستوى العالم، فيما اكتفينا نحن باحتراف على الطريقة المصرية أنتج بطولات وأندية ولاعبين وملاعب تتسم بالضعف والترهل فى مستواها لأن لغة الاحتراف الحقيقية لا مكان لها فى بلاد تصر أن تجهض أى اتجاه للتخلص من سيطرة الهواة وأنصاف المحترفين على مقدراتها والحد الأقصى للأجور هو الإجهاض الأخير الذى يتم لفقد أى أمل فى إدارة محترفة لأصول البلاد.

ولا يتباكى مؤيدو الحد الأقصى للأجور فى مصر على ثروات البلاد ومؤسساتها الغارقة فى سوء الإدارة وتدنى مستوى الخدمات والسلع التى تقدمها والمديونيات التى بددت أصولها بقدر تباكيهم على وجود بعض المؤسسات التى لا تطبق الحد الأقصى للمرتبات وشهدت الأيام الماضية تهليلاً واسعاً لتعميم الحد الأقصى البالغ 42 ألف جنيه على مؤسسات مثل البنوك والشركات العامة وكأن موازنة الدولة التى تعانى عجزاً بنحو 290 مليار جنيه ستنصلح بالحد الأقصى للأجور.

الأحد الأقصى للأجور بـ 42 ألف جنيه لن يؤدى سوى لهروب الكفاءات من المؤسسات العامة وقد تكون الاستجابات من القيادات وشاغلى المناصب العليا فى المرحلة الحالية لتطبيق الحد الأقصى داعمة لمؤيدى تطبيق القانون بلا استثناء، لأنهم غالباً ما سيحدثونك عن التضحية ومد يد العون للبلاد والاقتداء بالرئيس فى تبرعه بنصف دخله، ولكن ذلك لن يتعدى الأجل القصير وفى المدى المتوسط والطويل لن تكون الوظائف العامة جاذبة سوى لأنصاف الموهوبين بعد انتهاء موجة النفاق لمتخذ قرار الحد الأقصى بلا استثناءات.

هل يستحق رئيس البنك الأهلى والعضو المنتدب للمصرية للاتصالات وغيرهما من رؤساء ومديرى المؤسسات العامة ما يزيد على 42 ألف جنيه، الإجابة بالقطع نعم إذا أردنا مؤسسات ناجحة وقوية ورابحة قادرة على المنافسة والنمو والحفاظ على ثروات وأصول المصريين.

الحد الأقصى للأجور هو قتل صريح لروح المنافسة وحكم بإدارة غير محترفة لأصول البلاد وتهديد لمستقبلها لما يترتب عليه من نزوح للمهارات المميزة للقطاع الخاص وضعف القدرة على جذب قيادات من خارج الحكومة والقطاع العام.

قبل سنوات كانت الدولة تدير أول شبكة للاتصالات المحمولة ورغم احتكارها للخدمة آنذاك لم يزد عدد المشتركين على 60 ألف خط والطريف أن تقارير آنذاك تحدثت عن تشبع السوق وعدم القدرة على بيع خطوط جديدة «اللى معاهم فلوس اشتروا.. الخط بـ 3 آلاف جنيه والجهاز بقيمة تقترب من ذلك.. دى خدمة لرجال الأعمال».. بدل تليفون السيارة.. هذه هى رؤية الإدارة الحكومية لمستقبل أول شبكة تليفون محمول فى مصر.. ومع دخول موبينيل لتمتلك وتدير هذه الشبكة بقيادة نجيب ساويرس تم تعيين اللبنانى عثمان سلطان، خبير الاتصالات مديراً وعضواً منتدباً للشركة نهاية التسعينيات التى تبنت شعار «المحمول فى يد الجميع» وأغرقت وسائل الإعلام بالإعلانات عن المحمول ليتعرض سلطان لهجوم شديد خلال مؤتمر عن الاستثمار من مديرة استثمار أموال التأمينات آنذاك باعتباره مبدداً لأموال المساهمين ومنهم محافظ التأمينات وفشل المحترف سلطان فى إقناع الموظفة الحكومية صاحبة الصوت العالى بأنها لا تفهم فى الصناعة التى يديرها وأنه يطبق نماذج عالمية نجحت فى زيادة انتشار المحمول بعد الحملات الإعلانية المكثفة مع الدخول للسوق وقاد سلطان باحتراف موبينيل لقصة نجاح يعرفها الجميع على مدار ما يقرب من 8 سنوات، حيث غادر الشركة وعدد مشتركيها 7.5 مليون مشترك وإيراداتها 5.3 مليار جنيه والأرباح 1.4 مليار جنيه.

وحصد مساهمو موبينيل نتائج احتراف سلطان، بينما حصد أصحاب المعاشات تدنى العوائد على أموالهم بسبب الإدارة الحكومية غير المحترفة.

سلطان المحترف كرر نجاحه مع «دو» الإماراتية التى بدأت العمل فى 2007 ليصل عدد مشتركيها الآن لـ 7 ملايين مشترك من إجمالى 17 مليوناً بالسوق الإماراتى محققة من إجمالى بـ 1.9 مليار درهم هكذا هم المحترفون يحرزون الأهداف فى كل مكان.

ماذا لو استعانت الدولة بعثمان سلطان وبمن لديهم خبراته فى إدارة أول شبكة محمول فى مصر بدلاً من بيعها لنجيب ساويرس ألم تكن لديها فرصة لجنى مليارات الجنيهات مقابل عدة ملايين سيحصل عليها المديرون المحترفون أم أن الأولوية ليست للنتائج والأرباح والمنافسة بقدر ما هى للدرجات الوظيفية والتشفى فيمن يحصلون على رواتب كبيرة، رغم ما يحققونه من نتائج ويسددونه من ضرائب!

وعانى الجهاز المصرفى من الإدارات غير المحترفة وتعرض لهزات عنيفة كادت أن تؤدى به لأزمات طاحنة من نواب القروض إلى مديونيات قطاع الأعمال ومليارات رجال الأعمال المهربة للخارج والممنوحة بلا أدنى قواعد للمخاطر حتى أن البنك المركزى لم يكن لديه تجميع لمخاطر العملاء ليستغل بعضهم ذلك فى الاقتراض بلا رابط من أكبر عدد من البنوك وأياماً كانت الاعتراضات والانتقادات التى يمكن أن تطول الفريق الذى قاد عملية إنقاذ الجهاز المصرفى، لكن الاحترافية كانت وراء نجاح مهمتهم وما قاموا به من إجراءات حديثة وسياسات جديدة لا يمكن لأنصاف المحترفين والهواة وموظفى الحد الأقصى للمرتبات أن يفهموها.

ورغم ما تشهده المصرية للاتصالات من تطورات فى ربحيتها وإدارتها منذ إسنادها لإدارات محترفة لا يرى أصحاب نظرية الحد الأقصى للأجور أنهم يستحقون مرتبات تتجاوز الـ 42 ألف جنيه شهرياً وهو عائد يحققه صاحب كشك لبيع أجهزة المحمول إلا أننا فيما يبدو اشتقنا إلى الماضى عندما كانت قوائم الانتظار لتركيب تليفون تتجاوز الـ 10 سنوات فى أماكن عديدة على مستوى الجمهورية رغم توافر الطلب واستعداد المواطنين لسداد مقابل الخدمة، إلا أن الموظف الحكومى صاحب راتب الدرجة الثالثة لم يكن يعلم طريقة لتمويل هذه التوسعات سوى بانتظار خطة الدولة فيما جرأت قيادات المحترفين قبل سنوات بالمصرية للاتصالت على شراء %45 من فودافون مصر لتجنى أرباحاً مليارية للدولة من وراء هذا القرار وها هى الآن تدخل فى منافسة جديدة مع شركات المحمول بالحصول على الرخصة الافتراضية.

لا يستحق النواوى، رئيس المصرية للاتصالات ورفاقه ما يتقاضونه لأنهم يجيدون عملهم ويحققون نتائج تعظم من قيمة الأصول التى يديرونها المهم هو أن الـ 42 ألف جنيه رقم كبير وأن تولى الوظائف العامة شرف لابد أن يسعى إليه الجميع بل وأيضاً عليهم التبرع بنصف مرتباتهم إذا كانوا يحبون مصر.

عقارب الساعة تعود إلى الوراء، رغم تلك الأصوات والصيحات التى تبشر بعصر جديد وببشرة خير ويتبارى الإعلاميون فى تضليل الرأى العام بالتهليل لقرار الحد الأقصى والتبرع بنصف الراتب فى الوقت الذى يتقاضى فيه بعض مقدمى البرامج ما يزيد على الحد الأقصى المزعم فى الحلقة الواحدة.

إذا أردنا لمؤسسات الدولة التقدم للأمام علينا الاعتراف أنه لا سبيل لذلك بدون المحترفين ويبقى على الدولة وضع الأهداف والنتائج التى يتم على أساسها تقييم هؤلاء المحترفين ليستمر من يحقق النتائج المطلوبة ويرحل من يفشل حتى لا تتحول الوظائف العامة إلى تكية منهوبة لمن يرتدون ملابس المحترفين وهم لا يصلحون سوى للاعتزال الإجبارى ولدينا منهم الكثيرين ممن يقبعون فى أماكنهم منذ سنوات طويلة بلا حساب.

الحد الأقصى للمرتبات فى المؤسسات العامة لن يخدم سوى أنصاف الموهوبين الذين سيتقدمون الصفوف بعد توقف موجة النفاق للقرار الذى يؤسس لمرحلة جديدة لن يكون المنصب العام جاذباً سوى لأنصاف المحترفين.

( البورصة 4/7/2014 )