حوكمة الشركات العائلية: طريق الأشواك

سأكون صريحا مع نفسي قبلكم، فلم أكن أتصور مطلقا أن حوكمة الشركات العائلية بكل هذا التعقيد، وأن المشكلات في هذا الموضع تتجاوز القضايا العائلية إلى غموض في الأنظمة واللوائح ذات العلاقة مثل نظام الشركات، ولقد كنت أعتقد أن الحديث والمؤتمرات في هذا الموضوع من فضول القول، والأمر لا يحتاج إلى كل هذا التعقيد، نظرا لأن ملاك الشركة هم من يقومون بإدارتها فليس هناك مشكلة وكالة أو عدم توازن معلوماتي، كما أن أثر الإخفاق في عمل الشركة "قد" يكون محدودا على ملاكها فقط. لكن هذه النظرة تغيرت عندي تماما، فموضوع حوكمة الشركات العائلية ليست قضية سهلة، بل معقدة وتحتاج إلى دراسة وعمق في التحليل خاصة إذا كان حجم هذه الشركات كبيرا وتأثيرها الاقتصادي واسعا، أو أنها تتجه إلى التحول إلى شركات مساهمة.

الحوكمة تعمل ضمن ثلاثة محاور أساسية هي، محور تنظيمي، ومحور رقابي، ومحور الإفصاح والشفافية، كل محور يتضمن عددا من العناصر وكل عنصر يتضمن مبادئ. إلى هنا تنتهي الحوكمة لتبدأ الأمور الأخرى عملها تنفيذا لمبادئ الحوكمة، فمثلا في محور الرقابة تنص المبادئ على أن هناك عنصرا مهما هو إدارة المراجعة الداخلية، وهذا العنصر يتضمن عددا من المبادئ مثل الاستقلال. هنا يقف موضوع الحوكمة لتبدأ الإدارة بتشكيل إدارة المراجعة الداخلية وتنفيذ مبدأ الاستقلال. فالحوكمة تضع المبدأ وعلى مجلس الإدارة تنفيذه بطريقة أكثر تفصيلا.

وفي كل الأحوال فإن تركيب وصلاحيات مجلس الإدارة هي أهم قضية في مبادئ الحوكمة، لأنه يمثل أعلى سلطة تنظيمية داخل المؤسسات، ومنه تتفرع باقي الوحدات والإدارات واللجان، هذا المجلس له سلطات عليا تخطيطية وتنفيذية ورقابية، وهذا هو المقلق في الموضوع، فإذا كان المجلس يضع الخطط ويشرف على تنفيذها ويراقب ويضع اللوائح والأنظمة الرقابية، فكيف نضمن أن من يجلس على طاولة الاجتماع ويتخذ هذه القرارات، إنما يقوم بذلك لصالح الشركة والشركاء والمنظمة وليس لتحقيق مصالحه الشخصية. لذلك اتجهت مبادئ الحوكمة إلى تفتيت هذا المجلس من خلال إدخال أشخاص مستقلين وتشكيل لجان فرعية فيها مستقلون أيضا. ولكن أهم قضية كانت فصل وظيفة رئيس مجلس الإدارة عن وظيفة الرئيس التنفيذي.

ما هي مشكلة الشركات العائلية إذا؟ هي أن هذا المجلس "مجلس الإدارة" غير موجود في معظم الحالات، وهذا ليس معناه عدم الوجود المادي بل عدم الوجود بهذا التصور الذي منحه كل هذه الحقوق والمسؤوليات في مبادئ الحوكمة. فمعظم الشركات العائلية كبيرة الحجم تأخذ شكل الشركات ذات المسؤولية المحدودة، مع دخول معظم هذه الشركات إلى مرحلة الجيل الثاني وأصبح عدد الشركاء أكثر من عشرين، لهذا يصبح هيكلها الإداري معقدا "وفقا لنظام الشركات السعودي في المادة رقم 170"، بحيث يجب أن يتكون من مجلسين هما مجلس المديرين "أو الإدارة" ومجلس الرقابة، وهنا يفصل النظام بين الصلاحيات التنظيمية والصلاحيات الرقابية، وهذه فريدة في الشركات العائلية التي تحمل هذه الصبغة. وهي تربك عمل مبادئ الحوكمة في شكلها النموذجي، فالنظام منح مجلس الرقابة في المادة "153" حق مراقبة أعمال الشركة وأن يبدي رأيه في الأمور التي يعرضها عليه مدير الشركة، كما لهذا المجلس الحق في تقييد بعض التصرفات بموافقته إذا نص بذلك في نظام الشركة. وأعضاء المجلس لا يتم تعيينهم من مجلس المديرين، بل من جمعية الشركاء مباشرة فهو بهذا مجلس مواز ذو صلاحيات خاصة به لا يرجع بها إلى مجلس الإدارة بل إلى جمعية الشركاء مباشرة.

البعض يعتقد أن مجلس الرقابة يقوم بدور لجنة المراجعة المنصوص عليها ضمن مبادئ الحوكمة، لكن الموضوع مختلف، فلجنة المراجعة منبثقة من مجلس الإدارة، وليس لها سلطات ولا صلاحيات، بل هي لجنة ترفع توصياتها إلى مجلس الإدارة هو يتخذ قراره دون الرجوع إليها إذا شاء، وليس للجنة المراجعة حق التواصل مع الجمعية العمومية، كما أن لمجلس الإدارة حل اللجنة وإعادة تشكيلها، لكن مجلس الرقابة ليس تحت سلطة مجلس الإدارة بأي شكل، بل إن تعيينه يأتي أصلا من الجمعية العمومية للشركاء.

المسألة المعقدة في هذا الشأن هي مرجعية الأمور الرقابية داخل الشركة، لمن تكون في ظل هذا الهيكل المعقد، فمثلا، من المسؤول عن تقييم وتعديل وتطوير نظام الرقابة الداخلية، من المسؤول عن تعيين المراجع الداخلي والخارجي وتحديد الأتعاب ومتابعة التوصيات وإقرار تنفيذها؟ وإذا كان الإفصاح والشفافية لهما دور رقابي فإن لمجلس الرقابة حتما رأيا في ذلك، فهل يأخذ مجلس الإدارة رأي مجلس الرقابة كقرار أم كتوصية، وهل يجبر المدير التنفيذي على الأخذ بقرارات مجلس الرقابة أم مجلس الإدارة خاصة إذا اختلفت الآراء؟

في اعتقادي أن كثيرا من الأدوات الرقابية التي تفرضها نظم الحوكمة سوف تفشل تماما في ظل هذا التداخل والغموض في العمل بين المجلسين، وأول من سيفشل في عمله هي إدارة المراجعة الداخلية والمراجع الخارجي، وجميع الأعمال الاستشارية التي تتم من خلال موافقة مجلس دون موافقة أو رأي المجلس الآخر. لذلك قلت إن الحوكمة في الشركات العائلية هي طريق الأشواك وتستحق العناية والدراسة فعلا، بل يجب إنشاء كراسي بحثية لهذا الغرض.

 (المصدر : الاقتصادية 2014-05-25)