من وحي الجنازة الملكية
ربما لم تحظ جنازة ملكية في التاريخ الحديث بمثل ما حظيت به جنازة الملكة إليزابيث الثانية. جنازة مهيبة أريد لها أن تكون جنازة القرن. وأن يشاهدها في كل الوسائل الرقمية وغير الرقمية أكبر عدد ممكن من الناس في مختلف أرجاء العالم. ولذلك كانت الجنازة بشكل أو بآخر فرصة استثنائية لإعادة الوهج والألق للنظام الملكي العريق وللعائلة المالكة في بريطانيا، بعد أن نالت من صورتها تلك الفضائح التي كشفتها الصحافة البريطانية نفسها ونقلتها للناس كافة.
نجحت الجنازة وما سبقها ورافقها من مراسم تم التخطيط لها بدقة شديدة، في في خلق حالة مزاجية لدى أفراد الشعب البريطاني، أحيت فيهم مشاعر الاعتزاز والفخر الوطني بالعرش وبالمؤسسة الملكية. وقد رأينا ذلك رأي العين في هذا الفيض العارم من المشاعر المتدفقة. مشاعر الحزن والتعاطف مع أبناء الملكة وأحفادها. ورأيناه في الصفوف الطويلة التي وقف أصحابها منتظرين ساعات طوال من أجل إلقاء نظرة الوداع على ملكة سحرت قلوبهم بابتسامتها الدافئة وبتفانيها في خدمتهم على مدى سبعين عاما، تماما كما وعدتهم في أوائل خطاباتها المتلفزة، عندما قالت إنها ستكرس حياتها كلها، قصرت أم طالت، لخدمتهم.
حظيت الملكة إليزابيث الثانية في الداخل والخارج بالاحترام والإعجاب والتقدير، لوقارها واتزانها وحكمتها، لكن المشاعر التي أظهرها شعبها بشكل عفوي وتلقائي أكد مكانتها في قلوبهم. وهي بذلك تشبه إلى حد كبير الملكة إليزابيث الأولى، التي ألقت عام 1601، أي قبل وفاتها بعامين فقط، خطابا أمام أعضاء مجلس العموم، لخصت فيه حكمها في الكلمات التالية: «لقد ملكت بفضل حبكم. إن مصدر بهجتي ليس لأن الله جعلني ملكة، ولكن لكوني ملكة على شعب شديد الشكر والامتنان». وقد عُرف هذا الخطاب في كتب التاريخ بالخطاب الذهبي. ومن المفارقات أن بريطانيا التي حكمها العديد من الملوك على مدى قرون طويلة، لم يبق منهم في الذاكرة الجمعية الوطنية سوى أسماء معدودة حظيت بثناء المؤرخين وإشادتهم. من بينهم ملكتان: هما إليزابيث الأولى والملكة فكتوريا. لُقبت الأولى بالملكة العذراء لأنها لم تتزوج طوال حياتها. فلم تكن زوجة ملك ولا والدة ملك، بل كانت قبل كل شيء ملكة عظيمة قادت البلاد على مدى خمسة وأربعين عاما. ويكفي أن عصرها الممتد من من 1558 إلى 1603 يوصف في كتب التاريخ بالعصر الذهبي، لأنه عصر النهضة الذي ظهرت فيه أول دولة رفاهية في العالم وازدهرت فيه الآداب والموسيقى والفنون، وولد فيه المسرح الحديث، وبرز كتاب عباقرة من قبيل بن جونسون وويليام شكسبير. وهو أيضا العصر الذي تحولت فيه إنكلترا من جزيرة منعزلة إلى قوة عظمى، ألحقت هزيمة مدوية ومذلة بأضخم أسطول بحري آنذاك هو الأسطول الإسباني، الذي عرف باسم الأرمادا، وهذا النصر العسكري شق الطريق أمام بريطانيا لتبرز كقوة عظمى على مدار القرون الأربعة التالية. أما العصر الفكتوري (1837-1901) فهو عصر الثورة الصناعية الأولى التي تلت عصر النهضة. وخلال حكم الملكة فكتوريا الطويل الممتد لأربعة وستين عاما، توسعت البلاد وتمددت في آسيا وافريقيا وما وراء البحار حتى بلغت ذروتها وأصبحت أعظم إمبراطورية في التاريخ، وصفت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
أما عصر الملكة إليزابيث الثانية فسيدخل التاريخ بالتأكيد باعتباره الأطول في تاريخ الملكية البريطانية. وبالتأكيد سيكون الحكم عليه مختلفا، كل من منظاره الخاص. لكن في عيون الشعب البريطاني، ستبقى إليزابيث الثانية تلك الأيقونة التي حافظت على وقارها واتزانها، وعرفت كيف تحافظ على شعبية نظام ملكي عصفت به الفضائح من كل صوب، وهددت وحدته الانقسامات داخل العائلة المالكة نفسها.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews