زلة ليز تراس الاقتصادية

ليز تراس وقعت في المحظور عندما اتهمت البريطانيين بالكسل مطالبة بأن “يعملوا أكثر”. وقارنت وزيرة خارجية الحكومة المنتهية ولايتها، في محادثة نشرتها صحيفة الغارديان على موقعها في الإنترنت، بين العاملين في بريطانيا ونظرائهم في الصين. وأرجعت انخفاض إنتاجية العاملين البريطانيين إلى حالة ذهنية وموقف ومسألة تتعلق بثقافة العمل، بينما رأت أن الأمر في الصين “مختلف تمامًا، يمكنني أن أؤكد لك ذلك”.

اختيار هذا التوقيت لنشر المحادثة، التي تعود إلى الفترة التي كانت فيها تراس نائبة لوزير المالية من 2017 إلى 2019، لا يبدو بريئا؛ فليز تطمح إلى خلافة بوريس جونسون على رأس حزب المحافظين، وتخوض منافسة مع وزير المالية السابق ريشي سوناك لكسب أصوات أعضاء حزب المحافظين (عددهم نحو 200 ألف عضو) الذين يصوّتون عبر البريد حتى الثاني من سبتمبر المقبل لاختيار قائدهم الجديد، ويتوقع إعلان النتيجة في الخامس من الشهر ذاته، وتسريبات مثل هذه قد تؤثر على حظوظها.

أقوال تراس، التي قد تبدو قبل عام 2019 مقبولة، مرفوضة اليوم تماما ولن ينفع القول إن التصريحات “أُخرجت من سياقها”.

أيّ اقتصادي مبتدئ يعلم أن الاقتصاد البريطاني مهدد بالدخول في حالة من الركود لأسباب عديدة ليس من بينها ثقافة العمل عند البريطانيين.

ولطالما انتقد الغرب الحكومة الصينية واتهمها باستعباد الصينيين وتحويلهم إلى روبوتات تعمل على مدار الساعة. وفي الوقت الذي كان فيه الصينيون يعملون دون توقف، كان المواطن الأوروبي ينعم بساعات طويلة من الراحة والرفاهية.

بالتأكيد هناك تغيرات ومستجدات كثيرة حدثت بعد تصريحات تراس؛ أحدها، إن لم يكن أهمها، ظهور فايروس كورونا وتحوله إلى جائحة أثرت على اقتصاديات العالم وكان من أهم ما ترتب عليها ظاهرة العمل عن بعد وما رافقها من سيطرة للذكاء الاصطناعي والروبوتات، وقد شهدت هذه الظاهرة تسارعا في فرض وجودها بمختلف تفاصيل حياتنا اليومية.

العالم اليوم، إن اختلف، لا يختلف عن حقيقة أن الروبوتات ستحل محل البشر في المصانع وفي المزارع. الاختلاف طال فقط عدد السنوات التي تفصلنا عن تعميم هذه التكنولوجيا. وهي برأي أغلب الخبراء لن تتجاوز عقدا من الزمن. من سوء حظ تراس أن الحديث عن ثقافة العمل في أجواء مثل هذه يبدو أمرا ساذجا.

هناك ثقافة عمل جديدة تفرض نفسها في العالم، لا علاقة لها بالثقافة الآسيوية التي اعتمدت على تسخير الجهد الإنساني وحولت دولها إلى ورشات عمل كبيرة لإنتاج بضائع يستهلكها الغرب.

أكبر دليل على ذلك تغير مزاج الإدارة الأميركية في التعامل مع الصين، التغير الذي بدأ مع إدارة دونالد ترامب لتستمر به الإدارة الحالية بزعامة جو بايدن.

التكنولوجيا الذكية الحديثة وضعت نهاية لثقافة العمل بمعناها التقليدي، هناك ثقافة مبنية على التنافس في امتلاك التقنيات الحديثة، وهو أمر يدركه أصغر الاقتصاديين، تماما، كما يدركه السياسيون.

ما زلنا نذكر قولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “من يسيطر على ثورة المعلومات، يستطيع أن يسيطر على العالم”.

بريطانيا، ومعها باقي دول أوروبا، تواجه أوضاعا اقتصادية صعبة، لا يشك أحد في ذلك. هناك توقعات تقر بأنه سيحصل ركود يعم البلاد؛ فتضخم أسعار المستهلكين في بريطانيا تجاوز 10 في المئة في يوليو، ليصل إلى أعلى مستوى له منذ فبراير 1982.

وتوقع بنك إنجلترا المركزي، الذي رفع هذا الشهر سعر الفائدة الرئيسي من 0.5 في المئة إلى 1.75 في المئة، أن يصل التضخم إلى ذروته عند 13.3 في المئة خلال أكتوبر القادم.

أوضاع صعبة تركت جيوب البريطانيين فارغة، ودفعت بائعي المواد الغذائية إلى تقديم خدمات الدفع بالتقسيط. وهناك تصاعد في وتيرة التهديدات بالإضرابات.

الوضع الاقتصادي الصعب الذي يواجهه المواطن البريطاني يرجع إلى العديد من العوامل المتداخلة، من بينها جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا وما نجم عنه من أزمة في مجالَيْ الطاقة والغذاء. هذا بالطبع إلى جانب التأثيرات التي خلفها انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولكن حتما لا علاقة لثقافة العمل السائدة بين البريطانيين بالأمر.

من حق البريطانيين أن يشعروا بالإساءة من تصريحات تراس، فهي تحمل في طياتها رائحة اتهام بالكسل، بينما يعلم أي عامل في بريطانيا أنه حتى لو ضاعف ساعات العمل لن يجني ما يكفيه ليعيش في مستوى يحفظ كرامته، مع فاتورة طاقة سنوية بحدود 4000 جنيه، كما قدّرتها الحكومة.

لا يكمن الحل في الرجوع إلى الوراء 60 عاما أو أكثر. حتى لو افترضنا إمكانية ذلك إنسانيا، فإن التطورات التكنولوجية ودخول التكنولوجيا الذكية والروبوتات إلى حياتنا اليومية لن يتركا للبشر مجالا لتحقيق ذلك.

روبوت ذكي بإمكانه اليوم أن يكتشف الحقيقة التي غابت عن ذهن تراس التي تطمح إلى الحصول على منصب بوريس جونسون في حزب المحافظين.

أقصى ما يمكن إنجازه هو زيادة دعم الطبقات الاجتماعية. وقد تعمل الحكومات بنصيحة مؤسس مايكروسوفت الملياردير بيل غيتس وتفرض ضرائب على الروبوتات للإنفاق على برامج الدعم الاجتماعي.

وهذا أفضل الحلول وأقربها إلى الواقع.

العرب اللندنية