إعادة تأهيل جورج بوش ليست نكتة
لا شك أن الحاضرين ضحكوا كثيرا، عندما كان جورج دبليو بوش، أسوأ رئيس عرفته الولايات المتحدة حتى عصر سياسة تلفزيون الواقع، يلقي خطابا في تكساس لحظة وصول خبر الحرب في أوكرانيا، ليتوقف ويقول للجمهور إن “الانتخابات الروسية مزوّرة”، حيث “يُسجن المعارضون السياسيون أو يُقصون بطريقة أخرى من المشاركة في العملية الانتخابية. والنتيجة كما نرى هي غياب الضوابط والتوازنات في روسيا، ليتخذ رجل واحد قرار شن غزو وحشي وغير مبرر على الإطلاق ضد العراق”. واستدرك بوش بعد لحظة مصححا “أعني ضد أوكرانيا”.
الجزء الأسوأ جاء إثر ذلك، عندما هز كتفيه، وبدا كمن يومئ برأسه بطريقة توحي بلامبالاة قائلا: “العراق أيضا”.
ضحك الجمهور، وكأنما يبدي تسامحه، مع هذا الاعتراف الذي طال انتظاره من قبل الرجل الذي أصدر أسوأ قرار سياسي أميركي في القرن الحادي والعشرين.
وشاهد مقدمو البرامج التلفزيونية وصيادو وسائل التواصل الاجتماعي في وقت متأخر من الليل المقطع عددا كبيرا من المرات، مستمتعين، ربما، باسترجاع ذكرياتهم المرات التي أثارت فيه زلات الرئيس السيء السخرية فقط، وليس التهديد بمخاطر اندلاع حرب نووية، كما هو الحال مع انتقادات دونالد ترامب اللاذعة الموجهة إلى زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون.
لكن، لا شيء مضحكا في اعتراف بوش. بل على الجمهور أن يخجل من الضحك. فالحرب التي شهدها العراق كانت مدمرة للبلاد وما حولها؛ خلّفت مئات الآلاف من القتلى وتركت حضارة في حالة خراب. ثرواتها منهوبة وأهلها مصدومون. كانت جريمة تاريخية بكل المقاييس.
اعتقاد الجميع، في الحقيقة، أن بوش وكل من عمل في حكومته لن يواجه أي تبعات على الإطلاق هو أسوأ من ضحك الجمهور.
لا شك أن الجمهور لم يكن ليهزأ من خطاب مماثل لفلاديمير بوتين بشأن غزوه لأوكرانيا، ولا لصدام حسين بسبب غزوه للكويت. لكن مثل هذه الضحكة المتسامحة هي مؤشر على إعادة الاعتبار لرئيس كان، حتى سنوات قليلة مضت، ينفث السم في قراراته السياسية، ومؤشر أيضا على غياب مطلق لفكرة المحاسبة في المجتمع الأميركي على حرب العراق.وهذا على الرغم من حقيقة أن الحربين اللتين شنهما بوش ما زالتا مشتعلتين، وأن الانسحاب الفاشل من أفغانستان حدث في العام الماضي فقط، وهو أمر يصعب تذكره في خضم حرب أوكرانيا.
ولا يزال يوجد في العراق جنود أميركيون، لا يزالون يقتلون من حين إلى آخر. وهذا يعني أن هذا هو العقد الثالث الذي يموت فيه رجال ونساء أميركيون في العراق بسبب الحرب التي شنها بوش.
وإذا كان المجتمع الأميركي قد نسي الحرب في العراق أو كاد ينسى، بصرف النظر عن الارتفاع الأخير في الاهتمام في الصيف الماضي أثناء الانسحاب من أفغانستان، فإن أسر الآلاف من القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى الأميركيين ضحايا تلك الحروب، بالتأكيد، لم تنس.
وأشك في أن أيا من تلك العائلات التي شاهدت مقطع بوش قد وجدته مضحكا، وهي بالتأكيد لم تفسّره بأي حال من الأحوال على أنه زلّة لسان مسلّية صادرة عن رجل عجوز. وهو بالتأكيد ما رآه بوش في نفسه حيث هز الرجل الذي يبلغ من العمر 75 عاما كتفيه. ومن الخطأ القول إن الملايين من الأفغان والعراقيين والعرب الذين شعروا مباشرة بوطأة تلك الكوارث وجدوا الأمر ممتعا.
ويكمن سبب النسيان الواسع للحرب الأميركية الأكثر كارثية جزئيا إلى أن الجيل السياسي الذي شن الحرب آخذ في الانقراض. فقد توفي العام الماضي، على سبيل المثال، دونالد رامسفيلد وزير الدفاع المتشدد الأكثر ارتباطا باندفاع بوش إلى الحرب. وتوفي كولين باول، وزير خارجية بوش والرجل الذي ألقى خطابا محوريا أمام الأمم المتحدة في الفترة التي سبقت الغزو، وهو خطاب ندم عليه لاحقا، وعبّر عن ندمه هذا نهاية عام2021. وأصبح ديك تشيني، نائب بوش، في الثمانينات من عمره ونادرا ما يظهر علنا.
وبينما واجه بعض أعضاء مجلس وزراء بوش قليلا من الازدراء العلني، لم تكن هناك محاسبة سياسية أو قانونية لأيّ منهم. ولم نشهد في الولايات المتحدة شيئا مماثلا أو على مستوى تحقيقات تشيلكوت في المملكة المتحدة، حيث دام التحقيق سبع سنوات استجوب الشهود خلالها حول قرار خوض الحرب، بما في ذلك رئيس الوزراء الأسبق توني بلير. رغم أن بلير واجه تحقيقا أمام موظف حكومي، وليس قاضيا كما فضّل منتقدوه.
وبعيدا عن أيّ نوع من المحاسبة السياسية، أعيد الاعتبار للعديد من مهندسي الحرب وأنصارها في السياسة والإعلام واستمروا في شغل وظائف رفيعة المستوى.
ولا يوجد شخص واحد يلخّص هذا بشكل أفضل من جون بولتون العدواني، الذي قالت إليزابيث وارين إنه لم يواجه أبدا حربا لم تعجبه. ولم تكن تلك الحقيقة مزحة، بل تحليلا لسجل بولتون الحافل في الحكومة، أولا مع بوش الذي دفع غزو العراق سنة 2003، ثم ظهر مرة أخرى مستشارا للأمن القومي مع دونالد ترامب، وكان عازما على جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب في إيران وكوريا الشمالية. ويبدو أن معارضة بولتون اللاحقة لترامب أخفت ما سبق أن بدر عنه.
وكما سلك بوش نفسه نفس الطريق، وتحوّل من منبوذ سياسي إلى رجل دولة عجوز. والسبب واحد: دونالد ترامب. وكان ترامب ساما سياسيا وشديد العدوانية ويفتقر إلى الفهم الأساسي لادعاء الكياسة في الحياة السياسية، لدرجة أن المحافظين والليبراليين في الولايات المتحدة كانوا على استعداد للتسامح مع خطايا عهد بوش، فقط للعودة إلى ماض سياسي طبيعي قبل ترامب. وتحوّل قرار رجل واحد بشن غزو وحشي غير مبرر إلى نكتة على أمل أن يحجب الضحك عار ما حدث بعد ذلك.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews