فرنسا بين تحدي التغيير وأدواته
مالكة زمام أمور الحكومة الفرنسية تحمل اسم ملكة… إليزبث.. اسم قديم بالكاد تحمله بناتنا اليوم… فكثيرا ما يجنح آباء اليوم إلى إطلاق الأسماء “الجديدة” التي لا تحيل على معنى بدل أسمائنا العريقة حمالة تاريخ.
عراقة وتاريخ، هكذا يمكن افتتاح مقالنا اليوم ونحن نتحدث عن سابقة تعيين رئيسة للوزراء بفرنسا للمرة الثانية في تاريخ الجمهورية الخامسة. لكنَّ للعراقة وللتاريخ وجوها. هنا، وجه الخبرة، طبعا. إليزبث بورن صاحبة خبرة وزارية. لقد شغلت ثلاثة مناصب وزارية قبل توليها رئاسة الوزراء، ولكنها أيضا صاحبة خبرة تكنوقراطية، ميدان يسجل لها إنجازات على رأس شركة النقل العمومي الفرنسية (العريقة هي الأخرى)، وتتويجا عبر توليها وزارة العمل عندما خاضت الإصلاح العصيب لشركة السكة الحديدية الفرنسية.
لمالكة زمام أمور الحكومة الفرنسية الجديدة أكبر التحديات…فهي تنخرط ضمن ما يمكن تسميتها، أكانت ستنجح أم ستفشل، رؤية الرئيس المقبلة. هنا، الرؤية مبنية على ثلاثة محاور: أخذ مآخذ الرأي العام بعين الاعتبار، ضمان استقرار الحياة السياسية، تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي لم تتمكن الحكومة السابقة من تنفيذها بسبب الجائحة. أرى في أخذ مآخذ الرأي العام بعين الاعتبار، وضمان استقرار الحياة السياسية تلازما عضويا، يكمن في ضرورة تطبيق مبدأ الائتلاف على الحكومة الجديدة. بمبدأ الائتلاف، أعني نهجا سياسيا توسع اعتماده في أكثر من بلد، ألمانيا على سبيل المثال، حيث تتبنى الممارسات السياسية هناك مبدأ القاعدة الحزبية العريضة لتلتف الأحزاب حول المشاريع قبل التوجهات الأيديولوجية. ومن أجل تحريك هذه الائتلافات، لا بد من العثور على قائد أو قائدة للأكثرية يتميز بالمرونة. لكن من أجل تحريك هذه الائتلافات أصلا، كان لا بد من تحقيق اختراقات، وعندما نتحدث عن اختراقات نتحدث عن أشخاص يحملون رسائل ورموزا معا…وقد تترجم المفاجأة. المفاجأة يترجمها بكل تأكيد وزير التعليم الجديد باب ندياي الأستاذ الجامعي المتخصص في دراسة الأقليات في الولايات المتحدة.
تترجمها أيضا وزيرة الثقافة الجديدة ريما عبد الملك، التي شغلت حتى الآن منصب المستشارة الثقافية للرئيس. تعكس مثل هذه التعيينات صورة وفية لواقع المجتمع الفرنسي، مجتمع متكون من خلفياته الثقافية المتنوعة، كان لا بد أن يمثله.. المجتمع المدني. مالكة زمام الأمور إليزبث بورن، سوف تنسق قاعدة عريضة إذن، فلنسميها ثلاثية الأبعاد: سياسية، اجتماعية وتكنوقراطية.
لقد تمكن الرئيس من تثبيت مكانة الخبراء والتكنوقراط، من دون إعطاء حكومته الطابع التكنوقراطي الثقيل. هنا كسر التقليد وأبقاه في الوقت نفسه: أبقاه بتسليم زعامة الفريق لتكنوقراطية محسوبة على اليسار، لكن لا تحمل بطاقة حزب، وكسر التقليد بتحقيق المواءمة بين الخط السياسي الإصلاحي المرصود، ونزع هالة القداسة عن التصور التقليدي الذي تحمله الممارسة السياسية بفرنسا، أي بقاءها تحت سقف الأحزاب. السياق ملائم جدا هنا لإسقاط مقولة “أشكال وألوان” على المشهد الحكومي الفرنسي الجديد، أجل.. استعمل هنا عبارة “مشهد حكومي” عمدا. إنه أنسب من “مشهد سياسي”، ليس لأن الكلمة فقدت مصداقيتها، لكن لأن الممارسة أفقدتها من بعد القيادة التي يتضمنها معناها الأصلي. أما الحكومة، في الأصل وفي التطبيق، فرسالتها المفترضة إلغاء آثار الانتماء الحزبي من الممارسة، على أساس أن من يحكم يسعى لمصلحة الأمة ليس لفئة. وأفضل طريقة لتذويب الخلفية الأيديولوجية السياسية تقديمها فعلا في صورة الأشكال والأوان. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الحياة السياسية هنا بفرنسا، مرحلة تكريس الائتلافات وأيضا تكريس الاختلافات، لكن نادرا ما يراهن على جعل الائتلافات والاختلافات أدوات رئيسية للحكم والإصلاح والتغيير. وهذا التحدي الأكبر.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews