فنلندا والسويد من الحياد إلى عضوية الناتو

ربما لم يكن ليخطر على بال أحد أن كلاً من فنلندا والسويد قد تطلبان، في أي يوم، الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ولِمَ ذلك ما دام البلدان يتمتعان بالاستقلالية وليس ثمة خطر يتهددهما؟ حالة الحياد أكثر جاذبية من الانضمام إلى حلف عسكري من شأن حصوله أن يرتب عليهما التزامات اقتصادية وسياسية وأمنية هما في غنى عنها. وقد سمحت هذه الحالة بتركيز البلدين جهودهما على التنمية الاقتصادية الاجتماعية، فارتفع مستوى الرفاه باطراد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كان من المحتمل أن يستمر ذلك إلى أجل غير محدد لولا الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر شباط الماضي. وعلى رغم سابقة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، لم يتحرك البلدان باتجاه عضوية الحلف الأطلسي إلا بعد الغزو الجديد، فلا يمكن الحديث عن «تمدد الناتو» لتطويق روسيا إلا لمن لا يريدون أن يروا الأمور إلا من منظار فلاديمير بوتين. فمن جهة أولى، في هذا الزعم نظرة احتقار إلى شعبي وحكومتي السويد وفنلندا ترى فيهما مجرد دمى بيد حلف الأطلسي أو الولايات المتحدة؛ ومن جهة ثانية يعاند أصحاب هذا الزعم في تجاهل واقع عدم إثارة موضوع الانضمام إلى الحلف إلا بعد شباط 2022، أي بعد شعورهما بالخطر الشديد من دولة مدججة بالسلاح قرب حدودهما، يقودها دكتاتور لديه طموحات توسعية معلنة وسوابق دموية في هذا المضمار.
لم يحرك حلف شمال الأطلسي ساكناً حين غزت روسيا جورجيا واقتطعت منها مقاطعتين في 2008، ولا حين ضمت شبه جزيرة القرم في العام 2014، ولا حين انخرطت في الحرب على الشعب السوري لمصلحة نظام الأسد في 2015، ولا حين دعمت قوات حفتر في الحرب الداخلية في ليبيا. فلا بذل أي جهد لمواجهته وتحجيمه ولا سعى إلى «التمدد» المزعوم باتجاه الحدود الروسية. بل إن جميع الدول التي انضمت إلى الحلف بعد نهاية الحرب الباردة هي التي طلبت الانضمام و»تمددت» غرباً، في سعي منها للاحتماء من الجار الشرقي المرعب بعدما كانت تدور في فلكه في حقبة الاتحاد السوفييتي. هل أدت تلك الانضمامات إلى «تمدد الحلف» باتجاه روسيا؟ نعم، هذا بديهي. ولكن هل سعى الحلف إلى هذا التمدد؟ لا نملك من المعطيات ما يشير إلى ذلك. وفي جميع الأحوال لدينا واقعة تفقأ العين بهذا الخصوص، وهي أن الحلف تهرب مطولاً من تلبية طلب أوكرانيا للانضمام إليه، وكان مبرر هذه المماطلة هو «عدم استفزاز روسيا» وهو الرأي المعروف لهنري كيسنجر الذي كان قد حذر مبكراً من تداعيات هذا الضم المفترض. أما ما جرى في الواقع فهو أن امتناع الأطلسي عن القبول بعضوية أوكرانيا هو الذي شجع بوتين على غزو هذا البلد وعلى طرح مزاعم تحرمه من حق الوجود كدولة مستقلة.
لو أن حلف الأطلسي وافق على انضمام أوكرانيا لما كانت الحرب الدموية الجارية منذ نحو ثلاثة أشهر، والحال أن ألمانيا وفرنسا كانت معارضتين لضم أوكرانيا إلى الحلف، في حين تذبذب مؤشر قبول الأوكرانيين لهذا الانضمام صعوداً وهبوطاً، في العقدين الماضيين، وفقاً لاستطلاعات رأي متعددة. كذلك تراوح موقف الحكومات الأوكرانية من مسألة الانضمام إلى الحلف (والاتحاد الأوروبي) بين الحماس والفتور تبعاً لتدخلات روسيا وتهديداتها.

وحتى بعدما بدأ الغزو العسكري الروسي، وعلى رغم الفظاعات التي ارتكبها الجيش الغازي بحق المدنيين، لم يتجاوز رد الفعل الأطلسي عتبة الدعم بالسلاح وفرض العقوبات على موسكو، باتجاه إصدار إنذار جدي بالرد من شأنه ردع بوتين ووقفه عند حده.
ما يمكن التعليق عليه بخصوص الطلبين الرسميين الفنلندي والسويدي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ليس من نوع «ما شأن الحلف بفلندا وروسيا؟» كما يفعل البعض، بل إن هذا التطور يعبر عن ارتداد غزو أوكرانيا وبالاً على بوتين على جميع المستويات، ومنها أنه دفع ببلدان محايدة إلى الاحتماء بمظلة الناتو تحسباً لتعرضها لغزو مماثل لغزو أوكرانيا، أو التهديد بذلك لفرض شروط تنتقص من سيادتها الوطنية. حتى دول البلطيق الصغيرة المتاخمة لروسيا من الشمال الغربي بدأت تعبر عن رغبتها بالانضمام إلى الحلف.
لقد خسر بوتين حربه على أوكرانيا منذ اليوم الأول. فإضافة إلى فشله العسكري في تحقيق أهدافه المعلنة (السيطرة على العاصمة كييف وتركيع حكومتها المنتخبة وإلغاء أوكرانيا من الوجود كبلد مستقل) وتراجع تلك الأهداف إلى حدود مقاطعة الدونباس، أصبحت موسكو في عزلة دولية خانقة، لا يؤيدها إلا نظام بشار وأمثاله، تعاني من عقوبات اقتصادية رهيبة، ومرشحة لأن تكون مطوقة فعلاً بحلف الناتو بعدما كانت تتذرع بذلك بلا أساس واقعي.
لا بد من بضعة أسطر عن الموقف التركي السلبي من انضمام فنلندا والسويد. من حيث المبدأ تملك تركيا العضو في الحلف منذ الخمسينيات حق النقض على ضم أي أعضاء جدد، مثلها مثل جميع الدول الأعضاء. أضف إلى ذلك أن من حقها، من حيث المبدأ، أن تستخدم هذا الموضوع ورقة ضغط على دول حليفة، بينها وبين تركيا مشاكل، فهذا ما تفعله جميع الدول في العلاقات الدولية، أي الضغط والابتزاز. ولكن بالمقابل تجازف تركيا بعلاقاتها مع تلك الدول الحليفة حين تخضعها للابتزاز. كما أن ما طرحته من دواعي موقفها بخصوص «رعاية» البلدين المفترضة لأنشطة حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره إرهابياً يبدو كما لو كان ذريعة للتغطية على السبب الحقيقي وهو حفظ التوازن في موقفها بين الحلف وروسيا، أي رغبتها في عدم إثارة غضب بوتين الذي يملك ما يمكن أن يؤذي به تركيا، سواء في سوريا أو في العلاقات الثنائية بين البلدين.
ألم تنضم تركيا نفسها إلى حلف شمال الأطلسي خوفاً من الجار الروسي العملاق؟

القدس العربي