هل انتهت الأحزاب السياسية في الجزائر
أبانت الانتخابات الأخيرة في الجزائر أن الأحزاب السياسية لم تعد إلا مجرد غطاء إداري للمرشحين، فطيلة ثلاثة أسابيع من الحملة الانتخابية، لم ير المتابعون أي عرض لبرامج أو تصورات حزبية للنهوض بشؤون التنمية في الجماعات المحلية، بل كانت مبادرات شخصية لإطلاع الناخبين على أن هذا المرشح تقدم للاستحقاق تحت راية هذا الحزب أو ذاك فقط، وما عدا ذلك لم تظهر أي علاقة بين المرشحين والأحزاب.
لم يتجاوز سقف إقناع الأحزاب والمستقلين للجزائريين بالذهاب إلى صناديق الاقتراع حدود الـ35 في المئة، ورغم ذلك فإن الفائز فيها منتش بما حققه، لإخفاء حقيقة جديدة أفرزها المشهد السياسي الجديد، وهي أن قطيعة صامتة بين المرشحين والمؤسسات الجديدة من جهة والأحزاب السياسية من جهة ثانية تطبخ على نار هادئة.
ويبدو أن الأحزاب السياسية لم تعد تمثل إلا مجرد غطاء سياسي، لاستكمال ملف إداري يودع لدى سلطة تنظيم الانتخابات، وما عدا ذلك لا وجود لأي علاقة عضوية أو روحية بين جيل جديد من المرشحين وبين تلك الأحزاب، وهو تحول جديد يزيد في تفسخ وتحلل الطبقة السياسية، التي لم تعد قادرة حتى على إقناع مرشحيها بتبني برامجها، فكيف يكون الأمر بإقناع الجزائريين.
أزمة تلك الأحزاب ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عقود خلت، فمنذ منتصف تسعينات القرن الماضي، تحولت إلى مجرد لجان شعبية لتأييد السلطة، وما حدث في الاستحقاق الانتخابي ما هو إلا مجرد تحصيل حاصل لتلك التراكمات، وإلى دور مشبوه تقوم به السلطة الحالية للنيل من ماهية الطبقة الحزبية، بدعوى الانفتاح على المجتمع المدني وتنظيم المجتمع.
وعلى مدار ثلاثة أسابيع من الحملة الانتخابية لم يسمع الناخب الجزائري أن “الحزب الفلاني يملك هذا البرنامج للنهوض بالتنمية المحلية ولمعالجة الانشغالات اليومية للسكان”، لأن حتى المرشحين على ما يبدو كانوا يخجلون من الترويج لبرامج أحزابهم، واكتفى الكثير منهم بالإعلان على صفحته الشخصية في شبكات التواصل الاجتماعي بالقول “أعلن عن ترشحي لخوض الانتخابات تحت شعار الحزب الفلاني”.
وفوق الفتور الذي خيم على المشهد السياسي خلال أسابيع الحملة الانتخابية، لوحظ أن الترويج كان لشخص المترشح وليس للحزب، وفي أحسن الأحوال الوعود والتعهدات الشخصية، وليس البرنامج الذي يتبناه الحزب، وهو سابقة أولى في تاريخ الانتخابات الجزائرية، بما أن قادة الأحزاب انغمسوا في ملفات من اختصاص الرئاسة والخارجية والدفاع، وتجاهلوا أو افتقدوا إلى ما يواجهون به المواطن في مجالات الصحة والتعليم والصرف الصحي والإدارة وماء الشرب والنقل.. وغيرها، وتركوا مرشحيهم يخوضون السباق لحسابهم وليس لحساب الحزب.
ولو أراد أي محلل تفكيك إشكالية الطلاق السياسي في الجزائر بين الشارع والانتخابات، فإنه سيمر حتما حول أزمة الأحزاب السياسية التي فقدت رسالتها ودورها وخطابها ولم يعد لها برنامج أو هوية، ففي المطلق يسعى الحزب من أجل الوصول إلى السلطة عبر سعيه لإقناع الناخبين ببرنامجه، لكن في منطق الأحزاب الجزائرية صار المبدأ هو أن تكون مع السلطة أو ضدها، أو (الموالاة والمعارضة) وحتى الأحزاب الكبرى والعريقة صارت رديفا وليس قاطرة، حيث تكتفي في الغالب بجزء من الكعكة دون أن تكون شريكا ولو بجملة من برنامجها في برنامج السلطة التي تؤيدها.
وعلى مدار قرابة العقدين دعم تحالف جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم، الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وحضرت في المؤسسات والحكومة والبرلمان، لكنها ظلت غائبة تماما عن برنامج الرجل وتنازلت له عن كل شيء، فكانت بذلك رديفا وليس شريكا أو حليفا بالمعايير السياسية المعمول بها في كل التجارب السياسية.
الحزب السياسي في المنظور الجزائري لم يعد مدرسة بأفكارها وتصوراتها ومبادئها، بل بات غطاء إداريا في الوصول إلى المنصب، ولأن العلاقة السياسية غائبة بين المرشح والحزب، فإن الناخب بات مستقيلا من لعبة تقذف بين مرشح يبحث عن مصلحة ضيقة وبين حزب يفتقد لأي محتوى.
قد تكون هذه الانتخابات قد استقطبت قطاعا عريضا من الشباب، لكنها أشّرت إلى معطى جديد يكرس تآكل الأحزاب أو التوجه إلى نهايتها، ليعود بذلك نمط اختيار المرشح وليس الحزب الذي ساد الاستحقاقات التي عاشتها الجزائر إبان الأحادية السياسية (1962 – 1989)، لكن الفارق بين هذا وذاك، هو التفاعل والحماس الشعبي، فما كان آنذاك هو عكسه تماما الآن، وإلا ما علق المعارضون على الاستحقاقات الأخيرة، بأنها كرست “حكم الأقلية للأغلبية”، بما أن غالبية الشعب الجزائري مازالت ترفض الانخراط في المسار السياسي للسلطة الجديدة.
ويبدو أن النمط الانتخابي الجديد الذي انتهجته السلطة، من أجل قطع الطريق على ما أسمته بـ”الفساد السياسي وتغلغل المال في التنافس الحزبي”، قد أدى مفعولا عكسيا، فهو إلى جانب أنه شوش ذهن الناخب المتعب أو المحرج بعلاقة شخصية أو عائلية مع مرشح ما لإعانته على نيل المنصب، كرس الممارسة الفردانية في الفعل الانتخابي وزاد من تقليص قيمة ومكانة الحزب.
وما لجوء بعض الأحزاب إلى إطلاق إعلانات للمواطنين من أجل الترشح في صفوفها، إلا تعبير عن تفريطها في العلاقة العضوية اللازمة بين الطرفين، وكأن قاعدة العرض أكثر من الطلب رغم أن تعداد الأحزاب هو عشرات قليلة، بينما تعداد الراغبين في الترشح هو بالآلاف.
إلى وقت قريب كان الانضباط الحزبي وتقاليد الأداء ومعايير الترشح تمثل أول اختبار للراغب في الترشح، لكن المعادلة انقلبت الآن، وصار الحزب يتنازل عن كل شيء ويبحث عن مرشحين في صفوفه على شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر بيانات رسمية، وهو مؤشر خطير على تلاش متقدم للمؤسسة الحزبية في البلاد.
وتبقى جبهة القوى الاشتراكية، وهي أعرق أحزاب المعارضة في البلاد، التي تأسست في السرية خلال سنوات الاستقلال الأولى، أبرز نموذج على التحلل التدريجي الذي أصاب القوى السياسية، فمنذ رحيل زعيمه ومؤسسه المناضل التاريخي حسين آيت أحمد، وهو يتعرض لضغوط ومساعي التفكيك والتدجين وعدم الاستقرار والاختراق، فصار واحدا من تلك النماذج، بعدما ترشح مسؤول مركزي له، تحت راية حزب جبهة التحرير الوطني، وبعدما صار يبحث عن مرشحين، سرعان ما يديرون له ظهورهم بعد تتويجهم بالمناصب باسمه.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews