ليس بالغاز وحده تحيا الشعوب
يرى مؤرخون أن اكتشاف النفط بجنوب البلاد خلال خمسينات القرن الماضي، أهم سبب لتمسك فرنسا بالجزائر وبذلها كل الإمكانيات لإخماد ثورة التحرير، وفوق ذلك ناورت بكل المسائل خلال المفاوضات التي دارت بينها وبين وفد جبهة التحرير من أجل الاحتفاظ بالصحراء. والآن مرت ستة عقود على استقلال الجزائر النفطية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ماذا فعلت وماذا حققت بهذا النفط؟
في صائفة عام 2008، تجاوزت أسعار النفط سقف الـ140 دولارا أميركيا للبرميل الواحد، وحينها قال محلل عربي، إن هذه آخر فرص الدول النفطية والعربية تحديدا، إما أن تستفيد من الطفرة الحاصلة وتتحول إلى دول ناشئة، أو تضيع الفرصة كما ضاعت الفرص السابقة وتبقى إلى الأبد تحت سيطرة الآخرين، وانطبق التحليل على الجزائر فهي واحدة من المجموعة المصدرة للنفط والغاز، فقد بددت عائدات غير مسبوقة قدرت بـ1200 مليار دولار، وها هي الآن تجد نفسها أمام المجهول.
ويبدو أن الأنظمة السياسية الريعية لم تستوعب الدرس إلى حد الآن، لأنها لا زالت تبني جميع حساباتها على ثروة زائلة، ولم تستطع التحرر منذ عقود من عقدة هذه “النقمة”، أو القدر المحتوم على شعوبها، فالكل يضع يده على قلبه كلما تحرك مؤشر الأسعار إلى الأعلى أو الأسفل.
ولا زلت أذكر شعارات الحكومة الجزائرية منذ ثمانينات القرن الماضي، حول التحرر من التبعية النفطية وإيجاد الاقتصاد البديل، لكن ها هي العقود تجر بعضها بعضا ولم يتحقق أي شيء من تلك الشعارات، ولا زالت الجزائر تضبط حساباتها على ما يتدفق من آبار الصحراء وعلى ما ستحدده الأسواق الدولية، وجاءت أزمة العام 2014، وتلتها أزمة كورونا لتضع الجميع أمام الحقيقة المرة.
وبعد أكثر من 13 عاما من نبوءة المحلل العربي، تأكد أن الجزائر ضيعت الفرصة، ويبدو أنها لم تستفق بعد من المفعول المخدر للنفط، فهي لا زالت تحن إلى عهد المقايضات، غير مدركة أن القوى الكبرى لم تعد تسمح بالتوظيف السياسي للنفط والغاز ضد مصالحها، ولنا في النموذجين الإيراني والفنزويلي خير دليل، فبجرة قلم لرعاة المصالح في الغرب، لم يعد بإمكان إيران حتى شرب نفطها، ولأن فنزويلا تعجز عن توفير قطع غيار لمصافي النفط فقد شارفت البلاد على الإفلاس.
صحيح أن النفط والغاز فرصة وورقة في أيدي أصحابه، لكن العبرة في استغلال الفرصة وتوظيف الورقة، وليس في أن يتحول إلى “قصة الدب”، الذي قتل صاحبه بصخرة من أجل أن يزيح ذبابة عن وجهه، وما أشبه حكاية أنبوب الغاز الجزائري المار إلى إسبانيا عبر المغرب بالقصة المذكورة.
لا أحد ينفي حدة التوتر المتصاعد بين الجزائر والمغرب، ومهما كانت وجاهة الأسباب المطروحة هنا وهناك، ومهما كانت المصالح المتنافرة، فإن تداخل العامل الاقتصادي مع العامل الدبلوماسي لا يمكن أن يحفظ حتى المصالح نفسها، رغم أن المنطق السياسي يؤكد على أنه “لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، بل هناك مصالح دائمة”.
وفي المأثور الجزائري يقال “خاصم واحفظ مكان البصل”، وفيه يروى أنّ صديقين ارتكبا جريمة قتل، ودفنا الضحية في مكان مزروع بالبصل، لكنهما تخاصما بعد ذلك، ووصلت بهما الخصومة إلى القضاء، وأمام القاضي، خاطب أحدهما الآخر، للتمييز بين الخصومة والسر المدفون وعدم الخلط بين هذا وذاك، بالقول “خاصم واحفظ مكان البصل”، ويقصد بذلك نتخاصم لكن المصلحة الكبرى تبقى محفوظة.
من حق الجزائر أن توظف أوراقها في صراعات المصالح كما هو جار في كل بقاع العالم، لكن الإشكال على ما يبدو في ترتيب وتصنيف تلك المصالح وفي كيفية الدفاع عنها. فإسبانيا وإيطاليا لا يمكن أن تعتمدا كليا على الغاز الجزائري، والبلدان ليسا على درجة من الغباء من أن يضعا كل بيضهما في سلة واحدة، مهما كانت المحفزات والمغريات التي يمكن أن يحصلا عليها من الجزائر.
ولا تتوانى مدريد وروما، في الاستعانة بالغاز الروسي والقطري، رغم كلفة الشحن مقارنة بالغاز الجزائري، في رسالة غير مباشرة لها بأنها لا يمكن أن ترفع سقف مفاوضاتها لأن البدائل متوفرة لديهما ويمكن أن يستغنيا عنها لتجد نفسها أمام سائل غير صالح حتى للشرب، كما فعل الغرب مع إيران، وهو الأمر الذي يبرز سوء التوظيف الدبلوماسي الجزائري لمصلحة اقتصادية، في ما يتعلق بالأنبوب العابر للمغرب.
ويبدو أن الأيام القليلة المقبلة ستكون مفصلية في اتفاق الأنبوب المذكور الذي سينتهي نهاية شهر أكتوبر الجاري. وما وصف بـ”التهور” أخذ نفسا لمراجعة الموقف، بعدما ترك الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في تصريحه الأخير، الباب مواربا أمام المقاربة الاقتصادية عندما كشف أن القرار لم يحسم بعد، وهو ما يرجح فرضية تجديد الاتفاق بعد أن ينصح الرئيس بضرورة التمييز بين الدبلوماسي والاقتصادي، أو أن الأمر لا يحتمل خلط هذا مع ذاك.
ما يجب أن تدركه النخب الحاكمة، أنه “ليس بالغاز وحده تحيا الشعوب”، اقتباسا من مقولة “ليس بالقمح وحده يحيا الإنسان” التي ترددت كثيرا في الشارع العربي خلال السنوات الأخيرة، فكذلك قد تتردد المقولة الأولى، قياسا بقدرة القوى الكبرى في العالم على تحويل ثروات الدول الضعيفة إلى مصدر للفشل والتكبيل.
ووفق نبوءة المحلل العربي، فإن الدول النفطية والغازية التي فهمت التحولات الكبرى، حولت الثروات الزائلة إلى فرصة وورقة للنهوض وليس نمط حياة أزلي، بينما الأخرى تتعامى عن الحقيقة وتواصل التمسك بالوهم والشعارات، فتحولت ثرواتها الباطنية من نعمة إلى نقمة، كما هو الشأن بالنسبة إلى الجزائر التي بددت على مدار عقدين من الزمن 1.2 تريليون دولار، لكنها انتهت إلى أزمة مركبة، فلا هي حافظت على حق الأجيال القادمة ولا هي خلقت ثروة من الثروة، وبات كل شيء في حكم الندرة.
في السابق كان بإمكان الشعوب والحكومات الضعيفة امتلاك هذه الثروة أو تلك بشكل حصري، لكن الآن لم يعد بإمكانها التصرف فيها على هواها لأن الأقوياء وضعوا أيديهم حتى على ما لا يملكونه خارج حدودهم، وعندما يريدون ذلك يحولون النفط والغاز وأشياء أخرى إلى “حجرة دومينو ميتة في يد صاحبها” لا تفيده في شيء وتنهي أمله في ربح الجولة، ولذلك فإن الحاذق الماهر هو من يستغل الفرصة وليس من ينام عليها.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews