المسألة الثقافية في الجزائر
في البدء، يجب التأكيد على أن عناصر المسألة الثقافية في الجزائر، سواء زمن الاحتلال الفرنسي أو بعده، هي كلها قيد التكوين والتشكّل، وأن الوضعية الاستعمارية كانت بمثابة البوتقة التي حبلت بها، وانصهرت فيها مكوِّنات المسألة الثقافية. ولعلّ صدور كتاب تحت عنوان المسألة الثقافية للمؤرخ الجزائري ناصر الدين سعيدوني، ما يؤشر ويدل على أن جميع قضايا الثقافة الجزائرية لم تحسم بعد، وأننا دائما بصدد مشروع أو فكرة أو موضوع لم يكتمل. ونضيف أيضا أننا في التناول العربي للمسألة الثقافية في الجزائر نعالجها بلغة وفكر غير ناهض وغير موضوعي، بحيث أن البحث يجب أن يلازم لغته، بالقدر الذي لا يُظِهر الأيديولوجية والشعبوية والتحيز الرسمي والوطني المبالغ فيه.
فلا تزال قضايا الثقافة في الجزائر موضع سجالات ومماحكات وصراعات فكرية تُؤبد مواقف أصحابها الذين صنعوها، وتفرض رأيهم على أجيال لم تعد تفهم ما قيل فعلا، ولا ما أنجز حقيقة، إنْ في العهد الاستعماري، خاصة منه النصف الأول من القرن العشرين، أو في مرحلة ما بعد الكولونيالية، التي يفترض أنها تفرض منطقها ومجال التفكير فيها كمرحلة لاحقة عن الوجود الفرنسي في الجزائر، وليس افتراض وجود استعمار وهمي ليسهل الحديث عن قضايا الجزائر بلغة ليست من معانيها.
ما يجب التأكيد عليه أيضا، في مدخل بحث عناصر المسألة الثقافية في الجزائر في المرحلتين الاستعمارية وما بعدها، أو الاستقلال «الوطني» هو النخبة واللغة والهوية، التي حاول المؤلف أن يعالجها بالنقد والتحليل ليس كموضوعات مكتفية بذاتها، ولا هي تحتل وجودها في حيّز خاص بها، بل ترتبط بالباحث أيضا وتمثل في الغالب تصوره للموضوع برمته. ما نريد تأكيده أن المؤلف لم يظهر كل الاستقلالية العلمية المطلوبة في المسألة الثقافية في الجزائر، ليس بسبب عجز منه، بقدر ما أن الشرط اللازم والثابت لوجودها وهو الدولة ذات السيادة الكاملة والمؤسسات المستقلة غير متوفرة. وفي غياب، أو عدم وجود الإطار المؤسساتي والمرجعي، يصعب جدا الحديث عن موضوع شائك ومركب، تلتف عليه وتتعقد حوله مواضيع ومسائل متكررة ومتشابهة، كأن تتقاطع في البحث التاريخي العربي اللغة العربية والدين الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالنخبة أو اللغة أو الهوية. وعليه، فإن المسألة الثقافية في الجزائر لا تزال تعني وتطارد المثقف الجزائري وتلح على البث فيها بقدر كبير من الوضوح، ومن الشرح حتى تدخل فعلا الحيز الدراسي والبحث التاريخي العلمي والأكاديمي، يساعد على مشاركة الآخرين تناولها كمادة علمية ورصيد تاريخي يضيف الجديد على مستوى المقاربة والمنهجية واللغة وطرق المعالجة. إن الذات مع الموضوع هي جوهر المسألة الثقافية، خاصة في موضوعات وإشكاليات لا تزال غامضة وتعاني من عدم وجود اللغة اللائقة بها، وللمقاربة المناسبة لها والغاية المرجوة من البحث فيها.. هل لجهة علم التاريخ والمعرفة، أو لجهة السلطة والنظام، أو مواصلة الانتصار على الاستعمار في لحظة مفارقة لزمنه، على ما عليه الوضع في الجزائر المستقلة ولو نوعا من الاستقلال.. لأننا انتهينا في الحراك الجماهير الأخير في فبراير/ شباط 2019، إلى أن الشعب يريد الاستقلال.. وإسقاط النظام.
وغني عن القول إن موضوع الكتاب مع مؤلفه يمثلان لحظة تاريخية مهمة في الحياة الثقافية والسياسية الجزائرية المعاصرة، من حيث أهمية وقيمة الكاتب المؤرخ ومن حيث قيمة وأهمية الموضوع أيضا. ومن هنا جاء صدور كتاب حول المسألة الثقافية، في سياق عصيب جدّا، يشهد على تململ وضع اجتماعي واقتصادي مأزوم، فضلا عن هشاشة متوالية لسلطة سياسية تعاند القيادة العليا للجيش التمسك بها. فناصر الدين سعيدوني الذي انخرط في البحث التاريخي منذ أكثر من نصف قرن، أضاف رصيدا معتبرا إلى المكتبة الجزائرية والعربية، هو أيضا في اللحظة التي يكتب فيها مذكراته يقدم شهادته على تاريخ الجزائر في المرحلتين الاستعمارية وما بعدها، ويقف على تجربة متعثرة وحرجة على أكثر من وجه. الثقافة الجزائرية، على فرض وجودها أو عدمها، وكما يرى المؤلف عانت من حصار ومضايقة ولم يوفر لها السياق المناسب لازدهارها، سواء زمن الاحتلال الفرنسي أو لحظة ما بعد الكولونيالية. ففي المرحلتين عانت اللغة العربية والدين الإسلامي من سياج سياسي وإداري، صرفها عن أداء دورها في ظل مؤسسات الدولة المدنية الحديثة. وكان هذا السياق استعمارياً زمن الوجود الفرنسي في الجزائر، وكان مرة أخرى سلطويا في مرحلة الاستقلال «الوطني». فقد سمحت ورخّصت السلطة الاستعمارية بوجود حقائق وأعدمت أخرى، كما أن السلطة الجزائرية عملت الأمر نفسه، سمحت بوجود حقائق وأعدمت أخرى، نذكر على سبيل المثال، لا الحصر، تحويل المساجد في العهد الاستعماري إلى كنائس، ثم تحويل الكنائس إلى مساجد في عهد الاستقلال. والأمر نفسه في موضوع اللغة العربية، التي قصّرت فيها السلطة الفرنسية إن في الجزائر أو في فرنسا، كما قصّرت السلطة في الجزائر في احتوائها وحرمانها من أن تتحوّل إلى لغة تداول اجتماعي ومؤسساتي، والأمر نفسه في حالة الدين الإسلامي الذي لم توفر له الإدارة الفرنسية مبدأ الفصل على غرار الكنيسة المسيحية، فيما تسبب في الجزائر المستقلة في حرب أهلية بعد النجاح الكبير الذي حققه التيار الإسلامي في الانتخابات التشريعية في ديسمبر/كانون الأول 1991. جدلية الوجود والعدم سرت في التاريخين معاً.
والمقارنة الثقافية بين الوضعين لا تعني إطلاقا تواصلا بين الحقبتين، ولا محاولة المفاضلة بينهما، لأن كل مرحلة تحتفظ بعقلها وشروط البحث فيها على ما توصي وتلح عليه أدوات ومقاربات البحث التاريخي في الجامعات والمؤسسات العلمية. نريد أن نقول، وبوضوح كامل، إن للجامعة حقها في الكلام وإبداء الرأي في المسائل كافة، التي يمر بها المجتمع وتجتازها السلطة في صلتها بالتاريخ المعاصر في أنبل وأكبر معانيه. نعم، لم تعد إلا للجامعة إمكانية بحث موضوعات الساعة والتاريخ والمستقبل أيضا في المجالات والميادين كافة.. لأن عدم طرق مسائل وقضايا الثقافة والسياسة والاقتصاد في الجامعة الجزائرية يحيلها إلى مؤسسات جامعية في بلدان أخرى، خاصة منها الفرنسية، وهذا ما حدث ويحدث وسيحدث، وما سيفضي إليه من تعميق الهوة العلمية والمعرفية وحتى وجود وعدم وجود الكلمات والأشياء. وهذا ما سنعرفه في مقالات قادمة حول بعض المسائل التي تعرض لها المؤلف في كتابه «المسألة الثقافية في الجزائر».
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews