السقوط الأميركي في أفغانستان
بحسب قاموس ميريام وبستر فإن الغطرسة تنطوي على “كبرياء مبالغ فيه أو ثقة زائدة بالنفس”، ومن ثم فهي علة تصيب الشخصية كما تقول التراجيديا اليونانية الكلاسيكية، “تلك العلة من شأنها أن تؤدي بالبطل إلى محاولة تجاوز حدود القيود البشرية وأن يصطنع لنفسه مكانة إلاهية”، وفي المقابل حين تستشعر الآلهة تلك المهانة تقوم حتما بازدراء هذا المسيء وتذكّره بفنائه.
وبداية شهرة قائد الفرقة الجوية الأميركية رقم 82، الجنرال كريس دوناهو، أو نهاية شهرته، ستجعله عالقا في الأذهان كونه أنه في الثلاثين من أغسطس 2021، كان آخر جندي أميركي يغادر كابول.
ففي صورة ذات صبغة خضراء مثيرة للخوف لاقت انتشارا واسعا ظهر دوناهو وهو يستقل آخر طائرة من طراز C-17 تغادر أفغانستان، ويبدو فيها وكأنه يشخص ببصره إلى العالم كشبح المغامرات الإمبراطورية الفاشلة الغابرة.
وبينما كان جندي المظلات هذا يخطو باتجاه طائرة الهروب عبر مدرج الطائرات، وكأن بالمرء يسمع صوت أحذية الجنود الروس والبريطانيين وهم يجرون أذيال الهزيمة حين مروا من نفس الطريق، فهم ضحايا غطرسة حكوماتهم في القرنين العشرين والتاسع عشر.
تمثل قصة دوناهو بشكل خاص، وحياته المهنية بشكل كامل أنموذجا تحذيريا للسقطات المأساوية التي عانتها الولايات المتحدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001.
كان دوناهو مُتواجدًا في مبنى البنتاغون يوم أن أصابته طائرة الخطوط الجوية الأميركية 77 في ذلك اليوم المشؤوم. وكغيره من عشرات الآلاف من الأميركيين الآخرين الذين عاد الكثير منهم إلى ديارهم في صناديق فولاذية، أُرسل دوناهو لاحقًا إلى أفغانستان، أولاً في عام 2002 ثم في ثلاث مرات لاحقة، كما عزز دوناهو من صورة الولايات المتحدة كشرطي للعالم في بلدان أخرى، لاسيما العراق وسوريا.
ومع ذلك، فمن العدل أن نذكر أن مثل تلك المهام لم تحقق للولايات المتحدة ما هدفت إليه. ومع ذلك، وفقًا لمقابلة مع إيربونكر وبس بودكاست في الثامن عشر في مايو، وقتما كان التخطيط للانسحاب من أفغانستان يسير بخطى حثيثة، ظلت ثقة دوناهو التي تملؤها الحماسة كما هي تمامًا حيث قال “هذا الأمر ليس من الصعوبة بمكان بالنسبة إلينا. يمكننا التعامل مع كل ما قد يطلب منا.. كل ما تطلبه الأمة، ومهما تتطلبه القوات، يمكننا الوفاء به”.
وكل ذلك ممكنا باستثناء هزيمة طالبان التي لم ينالوها، بالطبع.
بينما تختفي ذكرى الجنرال كريس دوناهو، لن يبقى للعالم الغربي سوى التخلي عن قناعته المتغطرسة والتي تتمثل في أن نظرته إلى العالم هي النظرة الوحيدة الصحيحة، ومن هنا فإن تبني موقف واقعي تجاه أفغانستان وطالبان سيكون بمثابة نقطة انطلاق جيدة.
يتعين على العالم أن يطرح على نفسه سؤالاً بسيطًا: هل يريد الفشل أم النجاح للبلاد، مع أو دون وجود طالبان على رأس السلطة؟ ومن خلال حكمنا على ما تبثه القنوات الإعلامية منذ استيلاء طالبان على البلاد، فإن العالم يريد نجاح البلد.
وقد عكفت مكاتب الأخبار الغربية على استغلال كل قصة إخبارية غير مؤكدة تتناول طالبان، والتي يبدو وكأنها تُدير لعبة علاقات عامة جيدة، لكن يبدو في نفس الوقت أنها تنوي العودة إلى سيرتها الأولى.
وفي الوقت ذاته، وبينما، على ما يبدو، أن السياسيين الغربيين قد تناسوا أن قواتهم المسلحة قد تجرعت كأس الهزيمة، فقد شرعوا يثيرون الضجيج حول كيفية محاسبة طالبان، بينما تواصل العديد من الدول رفض الاعتراف بطالبان كحكومة للبلاد.
سرعان ما سينكشف لعواصم الغرب أنّ ما يفكّرون به بشأن أفغانستان لم يعد ذا جدوى. فعالم السياسة الواقعية هو الذي يحكم الأحداث في أفغانستان الآن، وتبدو تلك التهديدات زائفة وعقيمة. لقد جرب الغرب ذلك من قبل، هل تتذكرون؟ واقع الأمر الذي لا بد لأفغانستان والعالم الاعتراف به هو أن البلاد أصبحت الآن في أيدي طالبان مرة أخرى، على الرغم مما بذلته أقوى دولة في العالم وحلفاؤها من تضحيات على مدى عقدين من الزمن.
إذا بقي الغرب جادًا بشأن محاولته مساعدة الشعب الأفغاني، فلن يكون عليه فقط قبول وجود طالبان، لكن سيتعين عليه كذلك التخلص من سياسة الترهيب التي فقدت مصداقيتها والشروع في تقديم “الجزرة، أو سياسة الترغيب” والتي من شأنها أن تسهم رويدا رويدا في أن توائم طالبان مواقفهم بما يتماشى مع اتجاهات القرن الحادي والعشرين.
هل سيتغير البلد بين عشية وضحاها؟ بالطبع لا، ستكون هناك انتكاسات لا محالة، وكذلك أحداث تثير الرعب على مدى السنوات القادمة، لكن في مواجهة تحد إدارة دولة بأكملها، وخزينة تنقصها السيولة النقدية وشعب يتطلع إلى إجابات، كل ذلك من شأنه أن يجعل طالبان في حاجة إلى المساعدة والدعم ومن ثم ستسعى إلى الحصول على موافقة الدول الأخرى.
وبينما يتأمل العالم ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، التي دفعت بالولايات المتحدة إلى إطلاق أطول حروبها لمدة تربو على العشرين عاما، يجدر بنا أن نحسب التكاليف، ليس فقط لتلك الهجمات النكراء التي شهدها ذاك اليوم من سبتمبر من عام 2001، ولكن كذلك للمجازر التي أعقبت ذلك.
أودت الهجمات في ذلك اليوم بحياة 2977 مدنيا في الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، وفي محاولة يأسها منها قامت الحكومة الأميركية بغزو أفغانستان والإطاحة بحركة طالبان.
ومن المثير للسخرية أنهم هم الناس الذين دعّمتهم بالمال والتدريب والأسلحة خلال السنوات العشر من الحرب السوفييتية – الأفغانية. تلك العملية، التي لم تنجح في القبض على أسامة بن لادن، العقل المدبر لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولا في الإطاحة بطالبان، أدت إلى إزهاق أرواح زهاء 176000 شخص، وهي تكلفة بشرية كبيرة وفاتورة دموية ضخمة وفق جميع المعايير.
وكان من بين هؤلاء عدد 6247 أميركيا، وهذا يمثل أكثر من ضعف عدد الذين لقوا حتفهم في الحادي عشر من سبتمبر، بينما قُتل 1144 جنديًا آخر من الدول الحليفة، وقُتل أيضا أكثر من 46000 مدني أفغاني، إلى جانب أكثر من 56000 مقاتل من المعارضة.
ولم تكتف الولايات المتحدة بغزو أفغانستان وحسب، وإنما كان تغيير النظام في العراق هو البند التالي على جدول الأعمال، وهو الذي ثبت أنه أكثر تكلفة، حيث فقد فيه حوالي 300000 شخص حياتهم.
إن “حرب أميركا على الإرهاب” كلفتها ما يقدّر بنحو 6 تريليونات دولار، وكان نصيب أفغانستان منها 2 تريليون دولار، ولو استثمرت أميركا الأموال تلك في محاولة بناء أفغانستان لكان لأفغانستان بل وللمنطقة بأسرها شأن آخر.
الآن، على الأقل، وبعد أن تجرعت أميركا مرارة الهزيمة في ساحة المعركة، فإنه مازالت أمامها فرصة أخيرة لتفعل الصواب، حيث يمكن أن تبدأ بالاعتراف بطالبان، وبذل كل ما في وسعها لضم البلاد إلى أحضان الأسرة الدولية.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews