فراغ السلطة ملأته الأيادي الخفية
منذ حرائق تيزي وزو، وجريمة القتل المروعة للناشط المتطوع جمال بن إسماعيل، يبدو أن هناك من يريد شل المجتمع الجزائري أو الدفع به إلى الانفجار، فبعدما تم احتواء الأزمة بفضل حكمة العقلاء، يريد هؤلاء استفزاز على المصدر الوحيد لإسعاد الجزائريين والتشويش عليه، في زمن سدت فيه جميع الآفاق.
معالم الحرب النفسية بدت واضحة خلال تلك الأحداث، والرغبة في تحطيم القوى العقلية لشعب كامل أو النيل منها كانت ماثلة للعيان، لأن اليد الخفية محترفة على ما يبدو، وتعرف ما تفعل وماذا تستهدف، ولو أن صوت الحكمة والعقل في الجهة المقابلة، نغّص عليها حياتها وأحبط مخططها إلى غاية الآن.
كان هؤلاء يريدون إشعال الفتنة بكل الوسائل، فلما اصطدم القتل المروّع بالمقولة الخالدة لوالد الضحية “لا نريد حربا أهلية، القبائل إخوتنا”، لم تتوقف التسجيلات عن النزول تباعا على شبكات التواصل الاجتماعي بحثا عن عود الثقاب الذي كان ينقص حرائق من نوع آخر.
الوضع كان بمثابة مواجهة مستترة بين “شياطين الفتنة”، وصوت العقل والحكمة، ولأن هؤلاء غاية في الاحترافية ويدركون ما يفعلون، فإن مسلسل النيل من معنويات الشارع ومن قواه العقلية مستمر واختيار الأهداف يتم بدقة.
وحتى المصدر الوحيد لإسعاد الجزائريين بات محل رادار تشويشهم، لأنهم يدركون أن المجتمع في حالة انهيار شامل ولم يبق له كقاسم مشترك يصنع أفراحهم لبعض الوقت إلا منتخب كرة قدم، وبعض الشبان يقودهم شاب ليس ككل الشباب، لأنه فعلا رجل ساحر ارتقى بحرفته إلى فلسفة وليس إلى لعبة فقط، وهو ما يخططون لتحطيمه بغية تسهل عملية التدمير الشامل.
لقد أرغدت السلطة وأزبدت بشأن الأحداث المذكورة، لكن الشارع الذي فقد حتى ابتسامته وحيويته المعهودة يريد الحقيقة ويريد أن يعرف من يستهدفه في كل شيء ولم يسلم منهم حتى منتخب كرة القدم، ولذلك تم تفخيخ ظروف المباراة السابقة، لكن جمال بلماضي كان في المكان والزمان المناسبين وسحب البساط من مؤامرة تريد سرقة آخر فرحة بقيت بحوزة الجزائريين.
عُلّقت الأحداث على شماعة رشاد والـ“ماك”، حسب رواية السلطة والقضاء أمام منعرج حاسم لإثبات الجريمة والجزاء، لكن للسياسة أحكامها وأزمة الثقة فعلت فعلتها وانتهى الأمر، ولم يعد بالإمكان التسليم بالمقاربات الرسمية لدى الكثير من الجزائريين، لاسيما وأن المعركة الخفية لا زالت مستمرة، والأحداث المستفزة لمشاعر الرأي العام تشير إلى أن حرائق تيزي وزو والجريمة التي وقعت فبها، هي مجرد معركة من حرب.
وإذ تتابعت قرارات كبار مسؤولي الدولة إلى درجة لم يعد بالإمكان معرفة صاحب القرار الأصلي، لمّا تعلق الأمر بعزل مسؤولين مركزيين ومحليين في وزارة الشباب والرياضة، بسبب التقصير في الاعتناء بملعب البليدة، والظروف المزرية التي استقبل فيها الوفد البارالمبي المشارك في ألعاب طوكيو، فإن الكل يريد الوصول إلى السيد “x“.
وكم ظهرت الحكومات المتعاقبة والمؤسسات المختصة، صغيرة في أعين الجزائريين، كون البلاد برمتها لا تمتلك حافلة مجهزة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، وحتى كبرى شركات النقل الحضري في البلاد لا تملك إلا حافلتين والرواية على لسان وزير الشباب والرياضة، الذي ظهر وكأنه بريء من المظلمة التي ارتكبت في حق من رفع راية الجزائر في سماء طوكيو، عكس وفد الأصحاء الذين عادوا بخفي حنين، ما دام الخنجر قد مسح في الكبشين اللذين قدما فداء للفضيحة.
صحيح قد تكون وراء الأحداث أياد تستهدف كل ما هو جميل في البلاد، لكن لم يكن بإمكانها فعل كل ما فعلت وستفعل لو وجدت حكومة ومؤسسات محترفة، ولم يكن بإمكانها أن تخوض في تيزي وزو، لو لم تكن هناك حملة منظمة لخطاب الكراهية وبث الفرقة وشحن الحزازات الإثنية والعرقية، ولقد ثبت ذلك بشهادة السلطة التي سجنت جنرالين بسبب ذلك، وبشهادة شركة فيسبوك التي ألغت العشرات من الصفحات نظرا للأسباب المذكورة ووصفتها بـ“المقرّبة من السلطة”.
لم يكن بإمكان هؤلاء التآمر على المؤسسة الوحيدة الناجحة في البلاد (منتخب كرة القدم)، لو لم يكن القطاع مريضا بالفساد والمفسدين، ولا الإساءة لمن شرّف البلاد في المحفل الأولمبي، لو كانت المنظومة الرياضة في وضع مقبول، والسؤال المطروح، هل يكفي إقصاء كوادر مركزية ومحلية لإصلاح الوضع؟
الجزائر تضم الآن 11 ملعبا قيد الإنجاز، لكنها عبارة عن ورشات مفتوحة لا أحد يعلم نهايتها، وتملك العديد من الملاعب المفتوحة، لكنها البلد الوحيد في العالم الذي لم يستطيع الحفاظ على البساط الأخضر وصيانته ورعايته، فعادة ما يبدأ عشبا أخضر وينتهي إلى كلأ أصفر صالح للاستهلاك الحيواني، ليتكرّس بذلك الفشل الحكومي والمؤسساتي.
كان لا بد للسلطة قبل أن تتظاهر بالخجل أمام الإساءة التي ألحقها أعوانها برموز النجاح، التفكير أولا في المنشآت والمرافق الرياضية المتآكلة والمعطلة، وتسوية ملف ورشات الـ11 ملعبا الذي لم ير النور إلى حد الآن، رغم أن بعضها استهلك 15 عاما من الوقت وملعب واحد فقط استنفد 300 مليون دولار.
وكان على الحكومة أن تفكر في مليوني معوق من ضمن 45 مليون نسمة، يتلقون منحة 80 دولارا لا تغطي تكاليف أبسط الاحتياجات، أما مسالكهم في الإدارات والمؤسسات ومحطات النقل فهي ليست في برنامج مصالح الأشغال والإنشاءات تماما، وأما المركبات المجهزة فحدّث ولا حرج، وإلّا لما حدث الاستقبال المهين لذوي الهمم رغم تشريفهم للبلاد ورفع الراية الوطنية في طوكيو. عكس وفد الأصحاء الذي عاد مطأطأ الرأس، وبدل من أن تسقط تلك الكوادر، كان الأجدر إسقاط وزير القطاع نفسه، فأين كان ولماذا لم يكلف نفسه عناء استقبال الوفد والسهر شخصيا على الإمكانيات المرصودة لذلك؟
المحصلة أن الحرب المعنوية والذهنية التي تشن على الجزائريين، واستقواء الأيادي الخفية، لم تكن لتشتعل وتصيب الشارع في الصميم، لولا انتهاء صلاحية المنظومة الحاكمة وعجزها عن مواكبة أحلام الشارع وطموحاته، ولم تكن لتستعر لو لم تتأكد أن الانهيار واقع، ولم يبق إلا هدم صرح وحيد، هو منتخب كرة قدم الذي يلجأ إليه الجزائريون لممارسة طقوس متنافرة: هروب من الواقع، تخدير، متعة عارضة، والاعتزاز براية وطن.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews