وجوه في الجائحة
الأرقام جانب آخر من الجائحة لا يقل وقعا على النفوس من مشاهد مرضى كوفيد - 19 الباحثين عن الأوكسجين والرعاية الصحية في الغرف المكتظة للمستشفيات التونسية.
الأرقام، التي تصدرها كل يوم وزارة الصحة أصبحت في حد ذاتها مشكلا. كل تفاصيلها تعكس حجم الكارثة وإن كان الاعتقاد السائد أن الحصيلة في الواقع ربما أكبر من الأرقام الرسمية. هذه الأرقام تشير إلى أكثر من نصف مليون "إصابة متأكدة" وأكثر من 17 ألف وفاة. أرقام وصفتها منظمة الصحة العالمية بأنها من أعلى النسب في العالم وأعلاها في المنطقة العربية وأفريقيا بالمقارنة مع عدد السكان. وكأنما تلك الأرقام لم تكن كارثية بما فيه الكفاية، صرح أحد المسؤولين عن قطاع الصحة مؤخرا أن العدد الحقيقي للإصابات تجاوز الأربعة ملايين ونصف المليون إصابة، أي أكثر من ثلث السكان. أما عدد الوفيات فقد تجاوز 21.000. قدّر المسؤول هامش الخطأ في الأرقام الرسمية بحوالي أربعة آلاف تونسي وتونسية رحلوا منذ مارس 2020 ولكن على ما يبدو لم يحتسبوا ضمن الضحايا. ورب هامش بطعم المأساة.
أرقام وزارة الصحة مفصلة، فيها عدد الحالات المكتشفة والمرضى في غرف الإنعاش والتلقيحات وكذلك الوفيات. ولكنها في حجمها المريع لا ترسم الصورة بكامل أبعادها الإنسانية المؤلمة.
بل أن الأرقام لا تحكي كل جوانب المآسي التي تسجلها اليوم كل قرية ومدينة. قصص لأفراد وأسر تتصارع مع الوباء فينتصر من ينتصر وينهزم من ينهزم.
غير أنه في بلاد صغيرة ومترابطة اجتماعيا لا يمكن أن تبقى الإصابات والوفيات مجرد أرقام.
في تونس معظم الأسماء لها سمعة ومحيط عائلي وعلاقات ضمن مجتمع لا يزال إلى حد كبير مجتمعا تقليديا رغم كل شيء.
لم يعرف الإعلام التونسي في معظمه كيف يبرز الجوانب الإنسانية للمأساة بما يقنع من لا زال ينكر خطر الجائحة. ولكن رغم ذلك، أصبح للكارثة الصحية وجوه.
الكثير من الوجوه لأشخاص نعرفهم وتربطنا بهم وشائج القرابة أو الصداقة أو الزمالة في الشغل.
ويبقى دائما لوفاة الصديق والقريب وقعه المؤلم.
مات من جراء الجائحة عضو الحكومة السابق الذي عهدناه في أصعب الظروف وأفضلها خلوقا بشوشا مستبشرا بالحياة، مات الإعلامي الكبير المواظب على الرياضة صيفا وشتاء. مات الطبيب الرائد في ميدان اختصاصه. مات الطالب المتفوق في الثانوية العامة بعد أيام من إعلان نتيجة نجاحه. مات الفنان الذي مازال يخطط لحفلاته القادمة..
من جراء الوفيات أصبحت منصة فيسبوك مربعا لنعي الراحلين والراحلات إلى حد أن البعض أصبح يتردد في دخول المنصة الإلكترونية كل صباح لعل صورة فارس ترجل أو عزيز رحل تصادفه.
كان ضحايا الجائحة في البداية عبارة عن "حالات" متفرقة يسمع المرء بحدوثها صدفة عبر دردشات الهاتف والمقاهي ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي. كانت الإصابات الخطيرة محدودة وكانت الوفيات تدرج بوضوح في خانة "المسنين" أو الأشخاص الذين "يعانون من أمراض مزمنة". كانت الاستثناءات قليلة.
كانت الثقة كبيرة في الخبراء المشهود لهم ولهن بالعلم والخبرة. لم يكن أحد يتوقع أن تخرج الجائحة عن السيطرة. كان ذلك كافيا كي يواصل الناس حياتهم بشكل شبه طبيعي. ومسار أيّ ظاهرة لا تخرج عن نطاق توقعات الخبراء هو مسار أقل إثارة للخوف.
تغيرت قوانين اللعبة منذ أصبح الموت عشوائيا. لم تعد هناك معايير واضحة للموت والحياة، سوى ربما من كان ضمن "الفئة الناجية" التي حظيت بجرعتين من التلقيح وهذه لا تشكل سوى 6 في المئة من السكان.
أن يصبح الموت عشوائيا فذلك كابوس البشرية الأزلي. جعل ذلك الهاجس الإنسانية تسن قوانين منظمة للحروب وجعلت لها أهدافا "مشروعة" وأخرى "محرمة". من وراء ذلك كان الوهم بأن آلة الموت في الحروب يمكن أن تكون ذكية ويمكن أن تتصرف الجيوش حسب ضوابط أخلاقية مرسومة.
كان الوهم كذلك أن تستطيع تونس الانتصار في معاركها ضد الجائحة. كان التعويل كبيرا من الناس على السلطات السياسية اعتقادا منهم أن أصحاب القرار يعرفون مسؤولياتهم تمام المعرفة. ولكن السياسيين تخلوا عن جانب كبير من مسؤولياتهم للجيش بعد أن أخفقوا في السيطرة على الوضع. كانت هناك ثقة في علماء أكفاء يعتقد أنهم بالمرصاد للفايروس. كانت هناك ثقة في مؤسسات استشفائية يتوقع منها أن تكون مستعدة لكل الاحتمالات. ولكن احتمال الجائحة لم يكن على ما يبدو ضمنها.
وأظهر كورونا للتونسيين في نهاية المطاف أنه ليس ذكيا ولا أخلاقيا بأيّ معايير كانت.
تصرفت الجائحة ومازالت كأتعس الحروب المتوحشة التي خاضتها البشرية بلا عهود ولا مواثيق. أظهر فايروس كورونا أنه عشوائي جدا. يستهدف الكبار والصغار. الشباب اليافع والشيوخ المتقاعدين على حد السواء. وليس هناك هيئة دولية يمكن أن يتظلم إليها أحد وإن كان هناك من يلوّح بمقاضاة المسؤولين الحكوميين بتهمة عدم إنجاد شعب مهدد في حياته. وكأنما ذلك يمكن اليوم أن ينفع في شيء.
لم يعد الخبراء والعلماء قادرين على طمأنة أحد. بعضهم كان في أوج المأساة يحاول أن يثبت أن هذه هي الموجة الرابعة وليست الثالثة أو الخامسة. لكن ذلك لم يعد يهم أحدا. أصبحت لغة الدموع أكثر إقناعا. لم يكن البعض من الأطباء والخبراء وحتى المسؤولين يتمالك نفسه عن البكاء عندما يصف الوضع الصحي وحالة المستشفيات، وإن حاول البعض بعد ذلك فسخ الانطباعات الحاصلة بالقول إن المعركة قائمة مادام الجيش الأبيض يقاتل.
غريب كيف يتعايش الناس مع الوباء. يتعايشون بالقدر الذي يسمح به الفايروس من أجل أن يواصلوا الحياة والعمل والأمل. وهم يحافظون على الهامش الذي تتركه لهم مخاطر العدوى. بل إن البعض يوسع من هذا الهامش بإنكاره بشكل مطلق لوجود الجائحة أو بناء على قناعة أزلية بالقضاء والقدر.
يتعايش آخرون مع خطر الجائحة وغياب الإمكانيات في عملهم اليومي كأطباء وممرضين ومسعفين. ولكنه تعايش من منطلق المغالبة يقف إلى جانب المريض ويدافع عن حقه في الحياة.
وعندما يشن بعض أعوان المقابر إضرابا عن العمل مطالبين بحقهم في التلقيح والحصول على أجر الساعات الإضافية فهم في أوج التعايش مع الجائحة والتأسيس لمنظومة مهنية واجتماعية قابلة للحياة رغم المرض والموت.
يموت الكثيرون وتبقى الحياة في سرها الأبدي مستمرة.
ويبقى الأمل رغم كل شيء كامنا في أن تنتهي الجائحة يوما ما ونتذكر ضحاياها ونحن في وضع أفضل.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews