هذا ما تحتاجه الجزائر عندما يتعلق الأمر بتشكيل حكومة جديدة
صدفة ما جعلت الكثير من التعديلات الوزارية في الجزائر، منذ 1992، تحدث في فصل الصيف. تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمن يتماشى مع هذه «المصادفة». ويتماشى أيضا مع المألوف في عهد المخلوع بوتفليقة وقبله، من حيث تشكيلة الحكومة وطبيعتها ومهامها. هي خليط من جديد وقديم سيكون في خدمة «برنامج الرئيس» بأساليب ألفها شعب فقدَ الإيمان يمؤسسات الحكم وليس لديه ما يدعوه للوثوق في الحكومة الجديدة.
في تشكيلة الحكومة الجديدة وزراء سابقون ليس لديهم ما يميّزهم ولا شيء يبرر استمرارهم في مناصبهم. وفيها أيضا نوع من العودة ثلاثين سنة إلى الوراء. في صيف 1991، وبعد اضطرابات سياسية شديدة، استقالت حكومة مولود حمروش وتولى سيد أحمد غزالي (وزير الخارجية في حكومة حمروش) مهمة تشكيل حكومة جديدة اختار أن يحتفظ لنفسه فيها بحقيبة الاقتصاد، على الرغم من أنه بعيد عن الاقتصاد، في إشارة إلى أهمية الاقتصاد آنذاك (المهمة الرئيسية لغزالي يومها كانت تنظيم انتخابات نيابية «حرة ونزيهة»). بعد سنة من الكوارث والفشل الذريع على كل الأصعدة، رحل غزالي وحلَّ محله بلعيد عبد السلام، أحد رجال هواري بومدين. شكّل عبد السلام حكومة اختار أن يحتفظ فيها بحقيبة الاقتصاد أيضا، لمجرد أنه كان وزير النفط في عهد بومدين، وفي إشارة إلى أن اقتصاد البلد كان في الحضيض. بعد سنة أخرى من الفشل غير المسبوق رحل هو أيضا ليحل محله رضا مالك. في حكومة 2021 اختار الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمن الاحتفاظ بحقيبة المالية التي كان على رأسها في عهد سلفه عبد العزيز جراد. لعل الاحتفاظ بالمالية إشارة من صاحبها ومن الرئيس تبون على توجه البلاد وعلى أن الظرف الاقتصادي الصعب يتطلب أن يمسك الرجل الأول في الحكومة شخصيا بمحفظة المال.
من السهل أن يلحظ المرء الاهتمام الكبير الذي يوليه المجتمع السياسي والإعلامي في الجزائر، عشية تشكيل أيّ حكومة وبعد إعلانها، لحقائب وزارية بعينها. الداخلية لأنها ترمز للقوة والقمع والسيطرة على المجتمع، خصوصا في أجواء من الغضب الشعبي العارم. الخارجية لأنها تختزل الوجاهة والامتيازات ونوع من الاعتقاد (غير الصحيح) بالتأثير الدولي. العدل لأنها أداة تقنين القبضة الحديدية والسيطرة على جهاز القضاء والقضاة ومن ورائه المجتمع. الاقتصاد لأنها تشرف على الصادرات والواردات، ومعها الخزينة والأموال.
الماسكون بحقائب الخارجية والداخلية والعدل والاقتصاد يُصنَّفون في الجزائر «سوبر وزراء». في اجتماعات مجلس الوزراء «يُجلَّسون» الأقرب إلى الرئيس، ويشاركون تلقائيا في عضوية المجلس الأعلى للأمن الذي يقرر سير البلد أثناء الطوارئ والحروب.
من المؤسف أن اختصاصات القرن الواحد والعشرين لا تلقى الاهتمام المطلوب. لا أحد في الجزائر اليوم يريد أن يعرف شيئا عن وزراء البيئة والتكنولوجيا الدقيقة والرقمنة والذكاء الاصطناعي والإحصائيات وغيرها من المجالات الأهم كثيرا في هذا العصر من الوزرارات التقليدية! ولا أحد يأسف لو خلت أيّ حكومة جزائرية من حقائب وزارية في هذه التخصصات. إنها علامة لا تبعث على الارتياح، وعلى خلل فادح في استيعاب مقومات البقاء في عالم لا يرحم. بعض الإعلام الجزائري احتفى بعودة رمطان العمامرة إلى وزارة الخارجية، مشيرا إليه باعتباره «وزنا ثقيلا» في الدبلوماسية الدولية والإقليمية! كان العمامرة وزيرا للخارجية بين 2013 و2017، أي في إحدى أكثر فترات الجزائر سوادا وتعطلا، ورضيَ بأن يكون في خدمة المخلوع وزمرته أكثر منه في خدمة الجزائر.
كيف تكون مؤثرا في الدبلوماسية الدولية عندما تقبل بأن تكون وزيرا للخارجية أربع سنوات تحت رئيس مهووس بمرض العظمة ويرفض أن يتحدث أحد غيره باسم الجزائر، حتى وهو مقعد وأبكم، وشقيقه الأصغر يدير البلاد والعباد خارج أيّ ضوابط قانونية ودستورية وأعراف؟
بعيدا عن المسار السياسي الذي أنهاه العمامرة رسولا للمخلوع وعائلته إلى موسكو وعواصم أخرى (أذار/مارس 2019) للطعن في الحراك الشعبي وتحريض العالم الخارجي عليه، لا شك أن الرجل صاحب خبرة وشبكة من العلاقات بحكم مناصب ومسؤوليات دولية تولاها على مدى أربعة عقود. الخبرة أكيد مفيدة بشكل ما، رغم أن الأزمات الدولية تتغيّر وتتجدد وتفرض التعاطي معها بواقع ومعطيات اليوم لا الأمس. أما شبكة العلاقات الشخصية فمن الأفضل أن يتوقف الجزائريون عن اعتبارها مكسبا، لأن مصالح الدول ومكانتها لا تُبنى بالأمزجة ولا تُحمى بالعلاقات الشخصية. سنظلم العمامرة كثيرا، ومعه الجزائر، إذا انتظرنا منه أن يخدمها بعلاقاته الشخصية في هذه الظروف الدولية والإقليمية الصعبة والملغومة.
يجب أن تتحرر الجزائر من وهم الاعتقاد بأن المكانة الدولية والصوت المسموع يحققها شخص الوزير مهما كان قويا واستثنائيا. لقد آن أوان الإيمان بالمؤسسات والثقة فيها، والرهان على العمل الجماعي. من السهل أن تضع أيَّ شخص مغمور على رأس الخارجية وتطمئن عليها، عندما يكون لديك في الوزارة مستشارون محنّكون وكوادر لهم تجارب ورصيد متراكم من العمل والخبرات، يُحظون بالثقة ولا يُطردون عند تعيين وزير جديد يأتي ببطانته معه. هؤلاء الخبراء والمستشارون هم رأسمال الدول والحكومات. هؤلاء أهم وأبقى من الوزير ذاته وأكثر فائدة للبلاد منه. ينسحب هذا الكلام على كل القطاعات والوزارات، لكنه في مجال العمل الدبلوماسي أكثر وضوحا ولفتًا للأنظار.
تستطيع الجزائر أن تغيّر الحكومة كل ستة أشهر. وتستطيع تعيين أكثر الناس كفاءة ونظافة في الوزارات والمناصب القيادية. لكنها ما لم تستوعب هذه الحقيقة البسيطة المعقدة في الوقت ذاته، لن تصل إلى شيء. والأخطر أن أجيالا من أبنائها ستدفع يوما ما ثمنا غاليا لانغلاقها اليوم.
بعد سنة، أو أقل أو أكثر، ستنسحب حكومة بن عبد الرحمن لتحل محلها أخرى، وينسى الجزائريون بسرعة أسماء وأشكال وزرائها مثلما نسوا مئات الوزراء تداولوا على المناصب خلال العقود الثلاثة الماضية، لا لشيء إلا ليزيدوا الوضع سوءا والمركب غرقا.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews