الدبلوماسية الأميركية بأيادٍ عربية
استهل الرئيس الأميركي جو بايدن عهده بتحرك عسكري استثنائي قلّ ما يلجأ إليه الرؤساء الأميركيون في حديث عهدهم بالبيت الأبيض خشية ردود الفعل المحلية والدولية التي يمكن أن يشكلها أي تحرّك عسكري أميركي في العالم، ولو جاء محدودا، وما سيحمله تاليا من تبعات على الإدارة الجديدة خلال فترتها الرئاسية الأولى التي تمتد أربع سنوات. هذا التوجّه هو سواء، عند الديمقراطيين والجمهوريين من الرؤساء في آن، وفي الحالة الديمقراطية يكون عادة أشد دقّة وحذرا نظرا إلى طبيعة الأدوات السياسية التي يلجأ إليها الرؤساء من الحزب الديمقراطي والتي تعتمد بصورة رئيسية على القوة الناعمة والدبلوماسية طويلة النفس.
ففي تاريخ 25 فبراير من العام الجاري، شنّت القوات العسكرية الأميركية بناء على توجيهات من الرئيس بايدن ضربات جوية استهدفت مواقع في شرق سوريا بالقرب من الحدود العراقية السورية تتبع للميليشيات المقاتلة هناك والمدعومة مباشرة من إيران. إلا أن هذا التحرّك لاقى استنكارا كبيرا من الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس إلى درجة طرح مشروع قانون يمنع الرئيس من اتخاذ أي قرار قتالي دون الرجوع إلى موافقة أغلبية أعضائه؛ وأدّى الجدال بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في واشنطن إلى إلغاء ضربة ثانية كانت مقررة في الخامس من شهر مارس على المواقع نفسها.
الرئيس بايدن حاول من خلال تلك الضربات العسكرية إظهار قدرته على الحسم باستعمال قوة السلاح حين يلزم الأمر، وذلك ردا على اتهامات الجمهوريين له بأنه وصل يرتدي عباءة سلفه باراك أوباما السياسية الفضفاضة، وليرسم من جديد ما يشابه “خطوط أوباما الحمر” المشكوك بمصداقيتها ولاسيما في معالجته الضعيفة للأزمة السورية التي بلغت ذروتها باستعمال النظام السوري السلاح الكيمياوي ضد المدنيين العزل في العام 2013.
أما البيان الذي أصدره البنتاغون إثر العملية الأميركية في شرق الفرات فأشار إلى أن “الرد العسكري تم بالتناسب مع تدابير دبلوماسية بما فيها التشاور مع شركاء من دول التحالف”، وهنا بيت القصيد.
فالرئيس بايدن وجد نفسه مؤخرا في القلب من أزمة اشتعلت كالنار في الهشيم بين الطرف الإسرائيلي من جهة والفلسطيني ممثلا بحركة حماس في غزة من جهة أخرى، وكانت الأمور تبدو في تفاقم مستمر لو لم تلجأ إدارة بايدن إلى التدخل والعمل السريع والكثيف، وعادت إلى شركائها العرب في المنطقة من أجل إخماد جذوة الأحداث الدامية الأخيرة التي أودت بحياة المئات من أهل غزة بينهم العشرات من الأطفال والنساء خلال أيام قليلة، بينما كانت خسائر إسرائيل البشرية محدودة مقارنة بالفلسطينية منها.
أما ما بدا للمراقب من أن إدارة بايدن هي في طور الانسحاب البطيء والمنظّم من الملفات الساخنة في الشرق الأوسط، فقد أصبح على حين غرّة أمرا من الماضي بعد أن غيّرت أحداث غزة مساره تماما وأعادت الرئيس بايدن إلى عمق الحدث في الشرق الأوسط ودعته إلى إجراء العشرات من المحادثات الهاتفية مع الأطراف المعنية بالنزاع العربي الإسرائيلي للتشاور وإيجاد المخارج. المحادثات تركزت على الاتصال مع قادة مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ودولة قطر والسلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية، هذا بالإضافة إلى اتصال يومي مع الطرف الإسرائيلي الطاغي عسكريا في المعادلة؛ وانتهى الأمر بتكليف مصر بقيادة المفاوضات مع الأطراف المنخرطة في العمليات العسكرية المتبادلة بين غزة وتل أبيب بهدف الوصول إلى وقف إطلاق النار في أسرع وقت ممكن مخافة تعاظم الأزمة بشكل قد يجعل من الصعب احتواؤها والسيطرة عليها.
أحداث غزة كانت كافية لتحمل واشنطن على إدراج قضايا الشرق الأوسط وملفاته الساخنة على قائمة أولويات البيت الأبيض والأمن القومي الأميركي. وبزخم دبلوماسي عال وجدنا الرئيس بايدن ووزير خارجيته وطاقما من المستشارين والخبراء ينخرطون بفاعلية في الملفات المسكوت عنها، ولاسيما تلك التي تتعلق بإحلال سلام راسخ وشامل ومستدام في المنطقة يبدأ من اليمن وينتهي في فلسطين، وكما يجب أن يكون عليه السلام الحقيقي. كما أن تلك الأحداث جعلت الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن يعيدان النظر في مواقفهما وتصريحاتهما الهجومية وغير المبررة على قادة دول عربية حليفة، بينما وجدا في التشارك معهم بالرؤى والمشورة وتوزيع الأدوار في قضايا الشرق الأوسط المعلّقة فائدة عميمة برزت قيمتها في توصّل قيادة مصر إلى تحقيق وقف إطلاق النار بين فصائل حماس والجيش الإسرائيلي خلال فترة زمنية قياسية تُشهد للقاهرة ودبلوماسيتها العريقة.
وفور دخول اتفاق وقف إطلاق النار مرحلة النفاذ لدى الطرفين المشتبكين، ألقى الرئيس بايدن كلمة حيّا فيها مصر ممثلة برئيسها عبدالفتاح السيسي، وبدبلوماسيتها المتجدّدة، للوساطة المثمرة التي أدارتها بين الأطراف المعنية، والتي ساهمت في نزع فتيل حرب كان من الممكن أن تمتد في الزمان والمكان بصورة تشكّل خطرا كبيرا على الأمن الإقليمي والعالمي في آن. وأشار بايدن في كلمته إلى أن “الفلسطينيين والإسرائيليين جديرون على حدّ السواء بأن يعيشوا بأمان وسلامة وأن يتمتّعوا بشكل متساو بحالة من الحرية والازدهار والديمقراطية”.
ومن اللافت أن التعاطي الدبلوماسي العربي المدعوم أميركيا لفض الاشتباك الإسرائيلي الفلسطيني الأخير في إطار المساعي المشتركة العربية والأميركية قد أسّس نموذجا يُحتذى به في وضع الحلول الناجعة للعديد من الملفات العالقة في الشرق الأوسط. وأثبت نجاح الوساطة التي قادتها القاهرة، ودعمتها واشنطن، ضرورة إحياء الشراكات الأميركية السياسية مع الدول العربية الحليفة، والعودة إلى مرجعية الدول الفاعلة والمؤثرة من أجل المضي قدما في مشروع السلام الشامل والمستدام في هذه المنطقة الحيوية والأكثر سخونة في العالم.
فمبادرة السلام العربية التي طرحتها المملكة العربية السعودية في العام 2002 والتي تستند إلى إقامة دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود العام 1967 مقابل الاعتراف والتطبيع العربي مع دولة إسرائيل مازالت سارية الصلاحية، وهي تلتقي مع رؤية الرئيس بايدن، كما العديد من الرؤساء الأميركيين، في إقامة دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، يعيش أهلهما بسلام وحسن جوار جنبا إلى جنب.
فصل المقال رسمت خطوطه العريضة أحداث غزة التي نبهت الإدارة الأميركية الجديدة إلى أن التراجع عن دورها في الشرق الأوسط يحدث فراغا سيسرع الخصمان روسيا والصين لإشغاله، كما أن الاستغناء عن شراكاتها مع دول عربية هي حليف تاريخي لها سيعطي لإيران أكسجينا مضافا تحتاجه لتستكمل دورها في تقويض الاستقرار في المنطقة وإحكام السيطرة عليها. وأدركت إدارة بايدن أن عليها تجنّب هذين الأمرين معا والمضي بطريق يناقضهما تماما من أجل إحلال السلام العادل والمستدام الذي تطمح له شعوب المنطقة ودولها.
كما لا بد لنا نحن في العالم العربي من أن نعي ونحدّد موقفنا من المستجدات الإقليمية والدولية وكيفية استثمارها لتحقيق أهداف الشعوب العربية في التحرر السياسي والاجتماعي وضمان الاستقلال الاقتصادي. ومن بعض تجليات تلك المستجدات، على سبيل المثال لا الحصر، هو موافقة واشنطن على تزويد دولة الإمارات بطائرات F35 التي لم تسلّمها إلا لتل أبيب، كما أن المشاورات جارية مع الرياض من أجل إقامة قبة حديدية تحمي أجواء المملكة العربية السعودية من أي اعتداء موجّه إلى أراضيها، وتوازي تلك التي تحيط بسماء إسرائيل.
فهل التوازن العسكري الجديد بين الدول العربية وإسرائيل يعني لنا شيئا؟ وكيف يمكننا أن نجيّره ونبني عليه لتحقيق طموحنا في الاستقرار ولاحقا في التنمية وازدهار الدولة العربية المشهود لها في حقبتها الذهبية؟ هنا يكمن جوهر السؤال الملحّ والذي بات من الضرورة الإجابة عليه.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews