"إنتو الحرب الأهلية ونحنا الثورة الشعبية"!
على بعد 46 عاما من اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية اللعينة يقفُ اللبنانيون في صفوف الذلِّ على أبواب الأفران والمخازن والصيدليات وأمام محطات الوقود ليتذكروا أنّهم في عزّ الحرب الأهلية التي دامت خمسَ عشرةَ سنةً لم يصلوا إلى مثل هذه الحال من التردّي والإذلال.
ينظر المُمسِكون بالسيطرة على البلاد من أبراجهم العاجية وشرفاتهم المُنيفة بِعَينٍ ساديّةٍ شريرةٍ إلى اللبنانيين في أشدّ حالات بؤسهم ليتأكد دورُهم في الوصول إلى هذا الواقع المرير جزاءً للبنانيين على تجرُّئهم في الانتفاض في وجوههم ذات 17 تشرين، وعقوبةً لهم على رفضهم استمرار الحرب الأهلية في ديارهم، باردةً كانت أم مُشتعلة، ليتأكّد بذلك مغزى الشعار الأثير الذي رفعته الانتفاضة منذ البدايات: “إنتو (أنتم) الحرب الأهلية ونحنا الثورة الشعبية”.
وفي وقت ينشغل فيه معظم اللبنانيين بتأمين لقمة العيش، لا يجد المُسيطرون حرجا في التلهي وإضاعة الوقت، أسابيع وشهورا، في التناتش على مواقع في حكومة تُعيد إنتاج نظام سيطرتهم، وكأنهم من عالم آخر لا شأن له بما يعانيه الناس. يستهلكون المبادرات ويتبادلون الشروط والشروط المُضادّة تحت أعين عالم لم يعد يُكنُّ لهم سوى الازدراء.
ومع ذلك يستمرّون في محاولاتهم العمل على: مَحْوِ ذاكرة اللبنانيين من جهة وإعادتهم كلٌّ إلى تحت عباءة زعيمه الطائفي من جهة أخرى.
وفي هاتين المسألتين لاحظنا التالي:
كان حسن نصرالله في أحد خطاباته الأخيرة وجّهَ بإخراج تفجير مرفأ بيروت من دائرة الأعمال الحربية والإرهابية بذريعة أن ذلك سوف يؤمّن حوالي مليار ومائتي مليون دولار للمتضررين من مؤسسات الضمان والتأمين ما يحسّن أحوالَ الناس و يُنشّط الدورة الاقتصادية في البلاد!
قبل بضعة أيام قامت جهة تدّعي العملَ المدنيّ بطلاء الجدار المُحاذي لمرفأ بيروت حيث كانت كُتبت بالخطّ العريض عبارةُ “دولتي فعلت هذا”. لم تمضِ ساعات على ذلك حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي استنكارا، ثم أعيدَ كتابةُ ما جرى مَحوُه والتأكيد على أن تفجير المرفأ هو جريمة راح ضحيتها أكثر من مائتي قتيل والآلاف من الجرحى، ولن تمر دون حساب.
ثم بعد ذلك بيوم أو يومين بعث وزير الاقتصاد في الحكومة المستقيلة راؤول نعمة، رسالة إلى المحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق بيطار يحضّه فيها على “إخراج انفجار المرفأ من دائرة الأعمال الحربية أو الإرهابية” ليتسنّى للمتضررين تحصيل التعويضات اللازمة من الجهات الضامنة!
يتّضح تماما الرابط الوثيق بين هذه الخطوات الثلاثة التي أرادت محو ذاكرة اللبنانيين في ما يتعلق بجريمة من حجم جريمة تفجير مرفأ بيروت. زعيم حزب الله يوجه والدمى تنفذ.
الغذاء مقابل الولاء: خلال السنتين الماضيتين من عمر الأزمة المعيشية التي تتضاعف آثارها كل يوم، تُرك اللبنانيون أيتاما على موائد اللئام، نُهبت أموالُهم وأُعدمت رواتبُ من لا يزال لديه عمل وخسر الآلاف منهم أعمالهم ووظائفهم. قوى الأمر الواقع من حزب الله إلى سواه تركوا الناس لمصيرهم حتى يتملّكهم الجوع ثم جاؤوا اليوم، كلٌّ في بيئتِه الطائفية يرتدي ثوب الفضيلة ويوزّع المكارم على التّابعين في “كراتين الإعاشة”. لكنّ حزب الله الذي أصيب في صميم “بيئته الحاضنة” كان الأقدر على مأسسة “مكرماته” فعمد إلى تأسيس مؤسسات كبرى في مناطق نفوذه لتوزيع المواد الاستهلاكية بأسعار مُخفّضة، ممّا تحصل عليه من مواد مدعومة من أموال اللبنانيين في المصرف المركزي وما استورده من بضائع إيرانية وسورية، وربط كلَّ ذلك ببطاقات إلكترونية سمّاها بطاقة “السَّجاد” وزَّعها على أتباعه ومؤيديه والمقرّبين، ليكون بذلك قد أنجز ما لم تُنجزه أيٌّ من قوى السلطة التي يُهمن عليها.
فبعد أن أعلن استقلاله المالي عبر مؤسسة “القرض الحسن” التي باتت أشبه بمصرف مركزي خاص به، ها هو يعلن استقلاله المعيشي عن باقي اللبنانيين، ومن يحاول الخروج من تحت “عباءة السّيد” فلْيُعانِ الجوعَ والضائقة، “نحنا ما بنجوع!”.
محاولات قوى السلطة استعادة السيطرة على المجتمع من خلال إحياء الانقسامات الطائفية تارة باستحضار الحرب الأهلية وأحيانا من خلال التجويع والإعانات المعيشية لن تستعيد شروط تلك الحرب ولن تحييَ الاصطفافات التي يمكن أن تعيد إشعالها.
وحيث لا يمكن أن نتوجه إلى اللبنانيين المعوزين أن يرفضوا الإعانات الغذائية فإننا نلمَس بوضوح مِقدار السّخط والغضب الذي يعتمل في صدورهم حيال تلك القوى التي تعمّدَتْ إغراقَهم ثم رَمَتْ إليهم بـ”كراتين” التموين مقابل إشهار الولاء للزعيم أو للحزب أو للميليشيا.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews