متى يتوقف نزيف الدماء في دارفور؟
مخطئ من كان يظن أن نزيف الدم في دارفور سيتوقف بمجرد إنتصار ثورة ديسمبر/كانون الأول وذهاب نظام تحالف الفساد والإستبداد إلى المزبلة. ومخطئ تماما من كان يعتقد أن النزيف سيتوقف بمجرد التوقيع على إتفاق جوبا لسلام مسار دارفور. صحيح، لاشك أن الثورة مهدت الطريق وهيّأت المناخ لثلاثية حقن الدماء وتضميد الجراح وبسط السلام في هذا الإقليم المتسربل بالمأساة، ولكن هذه الثلاثية، كانت، ولا تزال، تحتاج إلى إرادة سياسية قوية، وخطوات عملية مدروسة لإقتلاع جذور النزاعات، يبدو أنها غائبة حتى الآن عن الحكومة الإنتقالية، قبل وبعد تعديلها وتوسيعها بإنضمام من حملوا السلاح بإسم دارفور في صفوفها. وصحيح، أن أزلام النظام البائد يستثمرون في تعميق الجراحات وتغذية الفتن والإحن، ولكنهم ما كانوا يجرؤون لولا تقاعس السلطة عن حسمهم، وإقتلاع عيونهم وأياديهم المزروعة داخل أجهزة السلطة الإنتقالية. وهذا موضوع سنتطرق إليه لاحقا. ولكنا اليوم، ومن زاوية أخرى نقول، مخطئ أيضا من يحصر نزاعات وصراعات إقليم دارفور في طابعها القبلي التقليدي، وبالطبع مخطئ من ينفي هذا الطابع. ومخطئ من يؤرخ لبدايات الأزمة في دارفور بإستيلاء الإنقاذ على السلطة وفرض سياساتها المدمرة على البلد، ولكن، مخطئ أيضا من يتجاهل دور هذه السياسات في تفاقم نزاعات دارفور وتحويلها إلى مأساة إنسانية دمويه أقامت العالم ولم تقعده حتى بعد دحر الإنقاذ.
إن الصراعات القبلية في السودان تجاوزت طابعها التقليدي، وتحولت من مجرد تنازع على الموارد الطبيعية المتدهورة إلى تطلع مشروع نحو مشاركة حقيقية في السلطة وفي صنع القرار السياسي والإداري، ونحو إقتسام عادل للثروة خاصة وأن هذه القبائل تقطن في مراكز انتاج هذه الثروة والموارد. وهذا هو حال الأزمة في دارفور، حيث، رغم الخصوصية والحيز الجغرافي، هي امتداد للأزمة الوطنية العامة الممتدة منذ فجر الاستقلال، والتي تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة التي تعاقبت علي الحكم طيلة العقود الماضية. لكن سياسات وتجاوزات حكومة الإنقاذ فاقمت الأزمة وأوصلتها إلى مداها الأقصى حتى أضحت مأساة إنسانية عالمية تتصدر أجندة الحكومات والمؤسسات الدولية!
النزاع القبلي في دارفور قديم، لكن قبائل دارفور لم يكن ينقصها الوعي والحكمة في التصدي لحل هذه النزاعات. ففي خلال الفترة من1957 وحتى اليوم عقدت عشرات المؤتمرات للصلح القبلي في دارفور، كما دونت مئات الوثائق حول أزمة السودان في دارفور. وقد لخصت تلك المؤتمرات والوثائق وورش العمل وكتابات المهتمين والباحثين، سودانيين وأجانب، لخّصت مفردات الأزمة والمشاكل في: احترام الحق التاريخي للقبائل على حواكيرها، والاتفاق على تحديد مسار مرحال غربي (غرب جبل مرة) وآخر شرقي، مع تحديد دقيق وقاطع للمعالم الطبيعية الثابتة لكل مرحال والمواقيت الزمنية، وأكدت على التقيد بالأعراف التي تواضعت عليها القبائل لفض نزاعاتها، والأعراف القبلية في الاستضافة أو الاستجارة لقبيلة أو عشيرة أخرى، كما بحثت مخاطر أنشاء كيانات إدارية جديدة دون مراعاة النزاع على ملكية الأرض، ومخاطر تشطير وتجزئة إدارات أهلية معارضة للسلطة المركزية وفرض إدارات أهلية موالية، ومخاطر عدم مراعاة الأعراف القبلية في الالتزام بسداد الديات والتعويضات، ومخاطر التمييز بين القبائل في جمع السلاح أو توزيعه، ومخاطر إنتشار الميليشيات المسلحة، بعلم السلطات أو نتيجة تهاونها، التي تمتلك أسلحة متفوقة على أسلحة القوات النظامية.
وأن أفرادا من القوات النظامية يشاركون قبائلهم في القتال القبلي ورسم الخطط العسكرية، ومخاطر إنتشار الأسلحة التي عاد بها من كانت تسميهم حكومة الإنقاذ «بالمجاهدين» من القتال في جنوب السودان الموحد كغنيمة أو فيئ، واستخدامها في الصراعات القبلية، ومخاطر البيعة للإنقاذ باسم القبيلة، وضعف نفوذ الإدارة الأهلية أمام نفوذ الروابط القبلية وقياداتها من المتعلمين والمثقفين، وعجزها لدرجة الشلل والخوف في أحتواء النزاع المسلح، واستغلال بعض المثقفين الانتماء القبلي لتحقيق تطلعاتهم لمناصب السلطة، وصراعات دول الجوار وتداخل القبائل وتدفق السلاح، والاستقواء بقبائل دول الجوار، والتساهل في منح الجنسية السودانية والرقم الوطني للوافدين….الخ. عشرات التوصيات السليمة والمجمع عليها، خرجت من هذه المؤتمرات والورش، ولكنها ظلت حبرا على ورق مختلف الحكومات المتعاقبة، خاصة الإنقاذ، فهل يا ترى ستسير حكومة الثورة على ذات النهج؟
صحيح أن قضية التنمية تشكل عصب الحل لتظلمات أهل الإقليم. لكن يصعب إلهاء أو خداع أهل
دارفور بشعارات وبرامج التنمية كمشروع مستقبلي، وهم يعيشون خذلان الماضي وانهيار الحاضر، سواء في المصير المجهول للأموال التي اقتطعوها من لحمهم الحي لتمويل طريق الإنقاذ الغربي، أو انهيار مشروع جبل مرة، أو إختفاء مشاريع السافانا وأم عجاج وخور رملة وساق النعام، أو توقف مدبغة نيالا، أوتراجع الاهتمام السنوي والموسمي بضبط مياه الخيران كتجربة ناجحة طورتها مساعدات ولاية سكسونيا الألمانية، أو توقف حملات العيادات البشرية والبيطرية المتحركة، أو مشروع تحسين الماشية وتسويق الألبان، أو تدهور حال المدارس والمستشفيات، أو عجز حكومة الثورة عن حماية الأهالي في معسكرات النزوح وفي المساحات التي يزرعونهازراعتهم، خاصة بعد خروج قوات الأمم المتحدة.
إن الوضع المأساوي المتفجر الآن في الإقليم يفترض تنفيذ تدابير عاجلة وفورية منها: القبض على مثيري الفتنة وتقديمهم للمحاكمة، تصفية الميليشيات ونزع سلاحها ومراقبة كل المنافذ لمنع دخوله، تنفيذ قرار الحكومة المتخذ منذ يوليو/تموز 2020 بتكوين قوات مشتركة لحماية المواطنين خاصة في المعسكرات، توفير وتوصيل الإغاثة من غذاء ودواء للمتضررين عبر ممرات آمنة وبمساعدة المجتمع الدولي، الشروع في تهيئة عودة النازحين إلى ديارهم الأصلية وحمايتهم وتعويضهم، وأن تحسم الحكومة أمرها فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية… هذه التدابير العاجلة، وغيرها، لابد من تنفيذها فورا، قبل التصدي لجذور الأزمة وتقديم الحلول الناجعة لها، عبر الاتفاق على مشروع وطني للخروج بالبلاد من أزمتها، وهو ما سنناقشه في مقال قادم.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews