لماذا يبدو الموسم الثاني من الحراك الجزائري أخطر؟
بعد عام من التوقف الاضطراري بسبب جائحة كورونا، عادت تظاهرات الغضب إلى شوارع المدن الجزائرية كأنها لم تتوقف أبدا!
في عودة التظاهرات بتلك القوة والإصرار، كما كان حالها الجمعة الماضية، دروس عديدة وبسيطة يتحتم على المسؤولين الجزائريين الوقوف عندها والبناء عليها إذا أرادوا حماية المركب من الغرق.
الدرس الأول، والأبرز، أن الجزائريين طفح بهم الكيل فلا شيء يستطيع إعادتهم إلى بيوتهم. الدرس الثاني، ولا يقل أهمية، أن حِيَل نظام الحكم، للَّعب مع الغضب والتلاعب به، بلغت مداها وأصبحت غير مجدية.
يكفي تأمّل الإصرار الذي تحدّى به مئات آلاف المتظاهرين الآلة الأمنية والجو الماطر والبرد والخوف من تفشي وباء كورونا، من أجل التعبير عن غضبهم، للتأكد من أن الجزائريين أكثر إصرارا اليوم على انتزاع حقوقهم مما كانوا يوم 22 شباط (فبراير) 2019.
يجب أيضا الانتباه إلى أن الحراك عاد أكثر تشددًا وعنادًا. الشعارات المرفوعة في تظاهرات الجمعة تؤشر إلى تصعيد خطير في الغضب، وقطيعة بائنة بين الشارع ونظام الحكم. كانت هناك شعارات جديدة خطيرة وغير مسبوقة من قبيل «المخابرات منظمة إرهابية».
التشدد الذي برز في تظاهرات الإثنين والجمعة الماضيين هو نتيجة طبيعية لاستمرار النظام في تضييع الفرص وإصراره على تجاهل غضب الشارع والمضي إلى الأمام. بهذا التعنت سيأتي عليه يوم لن يجد شخصا أو مجموعة يخاطبها وتستمع له. آنذاك يكون قد فات الأوان.
التشدد واحدة من أبرز سمات الحكم الجزائري منذ القدم. فهو متصلب يحب الخصوم المتصلبين لأنهم يخدمون خططه ويسهلّون عليه الإيقاع بهم، وينبذ السياسيين ومن يعملون العقل. في تسعينيات القرن الماضي ترك قادة العمل السياسي الإسلاميين في السجون وراح يتفاوض مع عتاة الإرهابيين والقتلة في المغارات وسفوح الجبال.
كان توقف التظاهرات وهدوء الشارع طيلة العام الماضي هدية نزلت من السماء على نظام الحكم من حيث التوقيت الجيّد والظروف المناسبة. لكنه، كعادته، أضاعها على نفسه وعلى الجزائريين برفضه قراءة الواقع القراءة الصحيحة. بدل استغلال عام الهدوء للبدء بمواجهة المشاكل السياسية والاقتصادية التي طرحها المتظاهرون وغيرهم من الجزائريين، وحلّ منها ما أمكن.. وبدلا من اتخاذ بعض القرارات العامة الضرورية والمفيدة للجميع.. وبدلا من إرسال إشارات حسن النية والتصالح مع الشارع.. اختار النظام، وعلى رأسه الرئيس عبد المجيد تبون، سياسة الهروب إلى الأمام لفرض الأمر الواقع، أو ما يسمى المرور بقوة.
ضمن استراتيجية المرور بقوة تندرج الحملة الشرسة من الاعتقالات التي استهدفت وجوه المعارضة المستقلة والمجتمع المدني الحر ورموز الحراك الشعبي، وكذلك التعذيب الذي تعرَّض له بعضهم في السجون. وضمنها أيضا يندرج إغلاق السلطات وسائل الإعلام الحكومية كليا وتحويلها إلى أدوات للدعاية السياسية والتضليل بشكل لا يختلف عن عهد المخلوع. تضمَّن مسعى المرور بقوة أيضا تنظيم استفتاء على الدستور قاطعته الأغلبية الساحقة (نحو 80 في المئة) من الناخبين. أصرَّ أصحاب الحكم على ذلك الاستفتاء على الرغم من أنه لم يكن أولوية عاجلة، ورغم أن كل المؤشرات كانت «في الأحمر» وتنذر بأن المقاطعة ستكون غير مسبوقة وتمس بمصداقية الدستور. ضمن المسعى ذاته كذلك يندرج تعيين رجل أمضى العقدين الماضيين من عمره قارئا لرسائل المخلوع في مهرجانات التملق والنفاق السياسي، وزيرا للسياحة في «الجزائر الجديدة». وضمنه أيضا يندرج «انتخاب» صالح قوجيل، وهو رجل تجاوز التسعين من عمره، رئيسا لمجلس الأمة (الغرفة النيابية الثانية) في بلد ثلثا سكانه دون الثلاثين.
في مقابل هذا العناد أفرج النظام عن نحو خمسين من سجناء الرأي. كانت تلك النقطة المضيئة الوحيدة، لكنها ينطبق عليها القول الشائع «قليل جدا ومتأخر جدا» لأنها مجرد قطرة أمام ضخامة الباقي.
كان يمكن لـسياسة المرور بقوة أن تفيد أصحابها، كما فعلت تجارب سابقة في الجزائر وغيرها، لو أن الجزائريين لم يتغيّروا بكل هذا العمق. لكن هذا الخيار فشل، وكان فشلا منتظرًا. وبدل أن تكون استراحة السنة فرصة لامتصاص الغضب وتخفيف الاحتقان، ترك الحكام الشارع يراكم الغضب ويتحيَّن الفرصة لتفجيره، فكان ما كان يومي الإثنين والجمعة، والباقي آت.
لم يكن فشل استراتيجية النظام صدفة أو مفاجأة. إنها قطعة ذات وجهين لا ألغاز فيها: الجزائريون كسروا القيود، والقائمون على رأس الحكم يرفضون تقبّل حقيقة أن الطير خرج من القفص ويرفض العودة إليه. لن يعود لأن جدار الخوف سقط، وحقنة التخويف من العشرية الحمراء والعدو الخارجي انتهى مفعولها، وورقة التقسيم الإثني والأيديولوجي والثقافي في تراجع أكيد. الذين في صدارة ثورة الشارع جزائريون غير أولئك الذين حطمتهم العشرية الدموية فتركوا المخلوع وأفراد حاشيته يعبثون بمصائرهم ومصائر أبنائهم.
من الصعب والمبكر الجزم بأن الموجة الثانية من الحراك قضت، أو ستقضي، على طموح النظام الحاكم في تمرير أجندته. يجب التذكير بأن النظام الجزائري نجح مرارا في تجاوز أزمات لا تقل تعقيدا، وفي استيعاب صدمات لا تقل ألمًا. لكن من الصعب، في المقابل، الجزم بأن هذا النظام سيمرِّر أجندته بذات السهولة والثقة التي تعوَّد عليهما.
ستكون الانتخابات البرلمانية المقررة قبل الصيف الامتحان الأول للطرفين تحت الموجة الثانية من الحراك.
المؤشرات القليلة حتى الآن توحي بأن النظام متجه إلى تكرار تجارب الانتخابات النيابية السابقة التي غيّرت الوجوه في البرلمان وكرَّست الفشل والتملق والكثير من الممارسات السياسية المقرفة.
إذا ما كرر السيناريو، فسيكون النظام قد سجل هدفا في مرماه. يمكن، ساعتئذ، الجزم بأن الشارع كسب الجولة حتى قبل أن يخضها. ستكون خسارة سياسية فادحة هي آخر ما يحتاجه النظام وهو في هذه الورطة.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews