ضجيج المواقف المتناقضة لا يخفي مناورات الغنوشي المتقلبة
لم يعد البناء على ما يصدر من تصريحات ومواقف عن راشد الغنوشي سواء كان بصفته رئيسا للبرلمان التونسي أو رئيسا لحركة النهضة الإسلامية، يصلح لرسم خطوط واضحة لمسار اتجاه بوصلة الأوضاع العامة في البلاد التي تتململ على وقع اهتزازات أزمة متعددة الأركان عمّقها انسداد سياسي خطير ومأزق دستوري متفاقم.
وأكثر زعيم الحركة الإسلامية من التصريحات المتضاربة شكلا ومضمونا، عكستها رسائل متناقضة ألقى بها وسط ضجيج من المناورات التي بات يصعب معها استخلاص الاستنتاجات، حيث يقول الشيء ونقيضه في خطاب لا يخلو من ازدواجية مكشوفة.
وبدا الغنوشي بهذا الخطاب كأنه يبحث عن مخرج للالتفاف على المأزق الذي يحيط به في علاقة بلائحة سحب الثقة منه كرئيس للبرلمان التي وقّع عليها إلى غاية الآن نحو 103 نواب من أصل 217، ولفك الحصار عن حركته التي أصبحت شبه معزولة بعد أن ابتعدت عنها غالبية الأحزاب والمنظمات الوطنية.
وفي إطار هذا الخطاب المزدوج، عاد الغنوشي إلى الحديث عن المخاطر التي يتعرض لها المسار الديمقراطي في البلاد، من خلال التحذير من خطر عودة “الدكتاتورية” حينا و”الحرب الأهلية” حينا آخر، وفق مقاربة تتغير عناصرها على وقع حسابات الواقع السياسي في البلاد.
ولا تخرج تلك المقاربة المتبدلة بسرعة عن الإطار العام للدور الذي يريد أن يلعبه، وعن استهدافات حركة النهضة الإسلامية، الأمر الذي جعله يراكم المغالطات والأخطاء التي يسعى إلى التغطية عليها بالغوص في التفاصيل المملة التي تحمل بين ثناياها مفردات تنمّ في ظاهرها عن غطرسة، وباطنها عن ارتباك.
وتكشف هذه المقاربة عن انهيارات متتالية في أوراق التعويل على تجاوز المأزق، وكسب رهان ما بات يعرف في تونس بـ”صراع الرئاسات الثلاث”، حيث سعى الغنوشي إلى محاولة دعمها بلقاء وصف بـ”الاستعراضي” مع السفير الأميركي لدى تونس في استهداف واضح لصلاحيات الرئيس قيس سعيد.
كما سعى في جوانب منها إلى توريط رئيس الحكومة، هشام المشيشي في صراعه المكشوف مع الرئيس سعيد، من خلال إيهامه بأنه متمسك به ولن يتخلى عنه على الأقل في هذه المرحلة، إلى جانب محاولة تخويف وإرهاب بقية الأحزاب والمنظمات الوطنية، وخاصة منها اتحاد الشغل، عبر التلويح بورقة الاحتكام إلى الشارع.
وفي سياق هذه الانهيارات التي تبدو منزلقة نحو عدة اتجاهات بحيث يصعب معها الجزم بنهاياتها، التقى الغنوشي مساء الثلاثاء مع سفير أميركا لدى تونس دونالد بلوم، حيث أكد له أن الحكومة القائمة حاليا برئاسة المشيشي “تتمتع بالشرعية التي منحها لها البرلمان، وأنها تضطلع بمهامها على الوجه المطلوب”.
وبحسب بيان وزعه البرلمان التونسي في أعقاب هذا اللقاء، اعتبر الغنوشي أن حكومة المشيشي “تتطلع إلى إنجاز الإصلاحات الضرورية التي تحتاجها البلاد في أكثر من مجال حتى تستأنف نموها الاقتصادي والاجتماعي”، وذلك خلافا لموقف غالبية الأحزاب في البلاد التي ترى أن الحكومة الحالية “مشلولة وعاجزة عن القيام بمهامها”.
وكان لافتا أن الغنوشي تعمّد أيضا التطرق في هذا اللقاء إلى الرسالة التي بعث بها إلى الرئيس سعيد لعقد اجتماع ثلاثي يجمع الرئاسات الثلاث، وهي الرسالة التي أثارت جدلا مازال متواصلا لاعتبارات عديدة منها أنها كشفت أن البرلمان أصبح ورقة لدى حركة النهضة الإسلامية توظفها خدمة لأجنداتها.
وعلى عكس هذه الرسالة التي سعت حركة النهضة إلى الترويج لها على أنها مبادرة سياسية، لم يتردد الغنوشي في توجيه اتهامات ضمنية للرئيس سعيد بـ”الشعبوية”، وذلك في مقال رأي نشره في صحيفة “يو أس توداي” الأميركية، عكست حجم الهوة الواسعة بين حقيقة ما يفكر فيه، وبين صورته كرجل “حوار” التي تحاول حركته الترويج لها.
واعتبر الغنوشي في مقاله الذي نشر مساء السبت، أي بعد ساعات من الإعلان عن أنه بعث برسالة إلى الرئيس سعيد اقترح فيها إجراء حوار للخروج من الأزمة الراهنة، أن الساحة التونسية تشهد تحديات منها “صعود حركات تستحضر الحنين إلى النظام القديم، وتسعى إلى العودة إلى الماضي الاستبدادي لحكم الرجل الواحد بدلا من التعددية والنظام الديمقراطي”.
وتابع قائلا في إشارة واضحة إلى الرئيس سعيد، إن “الحالة الشعبوية في تونس اتخذت طريق مهاجمة المؤسسات الديمقراطية والمسؤولين المنتخبين والأحزاب السياسية، وتعطيل عملهم وتغذية الفكرة القائلة بأنه يمكن معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية المعقدة وعميقة الجذور من خلال العودة إلى حكم الرجل القوي 'الأكثر فعالية' أو تنصيب دكتاتور"، على حد تعبيره.
وقرأ مراقبون مقاربة الغنوشي في تركيزه على الشعبوية، على أنها محاولة منه لتلميع صورته لدى الجانب الأميركي، وخاصة لدى الحزب الديمقراطي الذي يرفض “شعبوية ترامب”، لكنها أيضا مقاربة تتعارض مع الدعوات إلى الحوار التي تواترت في تونس على وقع تصعيد سياسي متدحرج في عدة اتجاهات.
وبدا واضحا أن هذا التصعيد له صلة بالمناورات التي أحدثت شرخا في العلاقة بين الرئاسات الثلاث، وبقية الأحزاب والكتل البرلمانية، خاصة وأنها تزامنت مع تزايد الحديث عن مبادرات لتخفيف ذلك التصعيد ترافق مع استنتاجات قامت في جزء كبير منها على افتراضات مخالفة ومتعارضة مع واقع الأحداث وتطوراتها.
وأخذت تلك المبادرات مسارا بدا خجولا في جزء منه، ومترددا حينا آخر وينتظر تغيير المناخ السياسي، لجهة إنضاج الظروف الموضوعية لإطلاق مبادرة لحوار جدي قادر على النجاح، ومع ذلك لم تصمد محاولات تخفيف التصعيد أمام مناورات الغنوشي ومغالطات حركته التي سارعت إلى الإعلان عن رسالة الغنوشي للرئيس سعيد وتقديمها كمبادرة للحوار.
ولم يتوقف ضجيج مناورات الغنوشي عند هذا الحد، وإنما توصل بتصريحات تلت الاجتماع مع السفير الأميركي، تضمنت سلسلة لا تنتهي من المغالطات، وكذلك أيضا التهديدات باستعراض قوة حركته في الشارع، حيث أكد في تدوينة له أنه “لا تراجع عن مسيرة 27 فبراير”، وذلك في إشارة إلى المسيرة التي تعتزم حركة النهضة تنظيمها غدا السبت وسط العاصمة.
ودعت حركة النهضة الإسلامية في وقت سابق أنصارها إلى النزول إلى الشارع “لدعم الشرعية ومؤسسات الدولة واستكمال المسار الديمقراطي”، وشرعت في عملية حشد وتعبئة لهذه المسيرة رغم الانتقادات لها الصادرة عن مختلف القوى في البلاد، وكذلك أيضا عن عدد من قادة هذه الحركة الإسلامية منهم القيادي سمير ديلو الذي حذّر من تبعاتها.
ويتضح من خلال هذه التصريحات المُتناقضة والمواقف المزدوجة، أن رهانات الغنوشي أصبحت مشتتة بين التعويل على بقاء موازين القوى على حالها، والمكابرة الناتجة عن وهم القوة التي يعمل على توظيفها انطلاقا من معادلات الصراع الداخلي وتوازناتها دون أن يأخذ بعين الاعتبار التداعيات التي قد تفرزها حسابات الواقع المتغيرة.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews