بعد إغلاق حسابات ترامب.. ما هكذا تورد الديمقراطية يا شركات الإنترنت
لا أستخدم الشبكات الاجتماعية. في حسابي على “تويتر” تغريدة واحدة أدخلت بالخطأ، وفي صفحة “فيسبوك” حدث واحد قبل دزينة سنين. لا أملك حساباً على “إنستغرام” ولم أزر “تيك توك” بعد. وبالتالي، فإني محرر من تضارب المصالح عندما أثور ضد القيود على حرية التعبير السياسي (في إطار الحفاظ على القانون) في هذه الشبكات، سواء كانت قيوداً تفرضها الحكومات أم شركات تتحكم بالشبكات.
تمتعت الشبكات الاجتماعية في الماضي بعطف كبير من الرأي العام الليبرالي، فالاستعانة بـ”فيسبوك” أتاحت للرئيس الأمريكي السابق أوباما الديمقراطية وتجنيد المال والمصوتين في المعركتين الانتخابيتين. في الولايات التي سدت فيها إدارة “فيسبوك” و”تويتر” وأمثالهما، نشبت صرخة ليبرالية جارفة. وكل شيء تغير عندما انتخب ترامب رئيساً للولايات المتحدة واستخدم “تويتر” لنشر أقواله؛ بعضها سخيف وهاذٍ، وبعضها محرض وخطير، وبعضها رئاسي وجدي. قامت موجة هائلة من النداءات، دفعة واحدة، للشطب وإزالة تغريداته. وهذا الأسبوع، بعد أن بدا عدم تحفظ ترامب من المشاغبين العنيفين في مبنى الكونغرس في واشنطن، أخذ أصحاب السيطرة في شركات الإنترنت المبادرة وأغلقوا حساباته وصفحاته، بل وأنزلوا شبكة المحافظة، من أجهزة الخدم؛ بدعوى أن ترامب حرض على التمرد والاستيلاء على الحكم بالقوة.
هذا الادعاء مشكوك فيه بحد ذاته. فترامب الذي يعيش على ما يبدو في عاصفة نفسية، ناشد عبر “تويتر” مؤيديه للتظاهر في احتجاج جماعي إلى تلة الكابيتول ضد “تزوير الانتخابات الأكبر في التاريخ”. واضح أن انتخابات الرئاسة الأمريكية لم تزور ولم تسرق من ترامب، ولكن المظاهرات أمام البرلمان ليست ظواهر استثنائية وليست ممنوعة في الدول الديمقراطية. والأمثلة عديدة.
بالمقابل، فإن إغلاق “تويتر” و”فيسبوك” و”يوتيوب”، (وماذا عن “واتساب”)، في وجه رئيس قائم، مع عشرات ملايين المتابعين وفي قوة عظمى تخط حرية التعبير على لوائح الدستور – لهو دليل على فقدان الصواب والتفكر الأشوه لأصحاب السيطرة في شركات الإنترنت التي تستسلم أمام صرخات النجدة الشعبوية. كمية هائلة من المعلومات الكاذبة رفعت إلى الشبكات الاجتماعية البريطانية في 2016، قبل الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكن لم ينطلق فيها أي طلب لإغلاقها في وجه ناشري الأكاذيب، وبدأ محطمو الأكاذيب يعملون بنشاط لمواجهتهم، وإن في وقت متأخر جداً.
ما الذي يميز الشبكات؟ مئات ملايين المتصفحين يرفعون إليها أفكارهم اللحظية، المنفجرة وغير الملجومة، ولا تخضع هذه لأي قواعد صحفية مسؤولة أو مبادئ أخلاقية مهنية، ولا تخضع إلا لبنود القانون ذات الصلة في دولتهم، وتكون عرضة لردود فعل زملائهم في الشبكة. هذه هي النقيصة، وهذه هي الفضيلة لشبكة اجتماعية مفتوحة، سوق آراء يعج بالناس ويخلق توازناً إعلامياً هزيلاً وهشاً وغير متوقع. عندما يتدخل أصحاب السيطرة في المضامين التي ترفع إلى الشبكة، فإنهم يأخذون لأنفسهم دوراً ثلاثياً للمحرر، الناشر والرقيب – دون أن يكونوا تأهلوا وخولوا بذلك – فيخرقون التوازن بقدم فظة. اليوم يغلقون لترامب ولمؤيديه من اليمين، وغداً -بذات الوقاحة- سيغلقون حساب “تويتر” لرئيس “يساري” ومؤيديه. السابقة تمت. كما أن بث صوت أوروبا الحرة شوشته الأنظمة الشيوعية في الكتلة السوفياتية بتهمة أنه بث يحرض على التمرد ضد الديمقراطية الشعبية، الحقيقية الوحيدة.
إن التحريض الذي أدى إلى قتل إميل غرينتسفيك في مظاهرة “السلام الآن” في 1983، وقتل رئيس الوزراء في 1995، لم يضخ في الشبكات الاجتماعية التي لم تكن قد وجدت. ولكنه ضخ في آفاق نشر أخرى عظيمة النفوذ: خطابات الميادين، والمواعظ الدينية والفئوية، والشائعات المغرضة من الفم إلى الأذن.
يجد التطرف الآن تعابيره الواضحة في الشبكات الاجتماعية والتعقيبات، وهي تعظمه ولكنها تشكل سدادات أمان للتنفيس. وإغلاق السدادة لن يهدئ الضغط ولن يقلله. وربما يزيد فينزل التحريض إلى أعماق خفية عن العيان، إلى مرابض الوعي العام الخطيرة للغاية على الديمقراطية. مثلما يثبت التاريخ.
يديعوت
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews