دروس "بريكست"
مهما كانت التنازلات التي قدمت في مفاوضات ما بعد “بريكست” فالأمر يستحق. ليس فقط لما ينطوي عليه الاتفاق الناتج عنها من منفعة اقتصادية للاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وإنما لما تعلمه العالم منها في معاني العمل المضني، والمصلحة الوطنية، والحكومات المسؤولة، ومواجهة التحديات، وشفافية الأداء. ثمة محطات فيها ربما تستحق أن تدرس في المعاهد والجامعات المختصة. فيكفي أنها بكل تعقيداتها، جرت في وقت قصير وتحت وطأة ظروف استثنائية يعيشها الطرفان والعالم بسبب الجائحة، ورغم ذلك تكللت بالنجاح. ليس بمنطق فوز فريق على آخر، وإنما في إطار صيغة “لا غالب ولا مغلوب”.
محادثات ما بعد الخروج، وخاصة على الضفة البريطانية، تنطوي على دروس كثيرة ولكن عددا منها يستحق التأمل مطولا. نبدأ بإصرار الحكومة على تلبية الإرادة الشعبية في تنفيذ “بريكست” رغم كل التحديات التي واجهتها. فالمحادثات جرت خلال أحد عشر شهرا فقط، وتحت وطأة وباء كورونا الذي أجبر دول العالم على تغيير خططها الكبرى، ولكن حكومة بوريس جونسون لم تقبل حتى بتأجيل طلاق لندن وبروكسل. الرسالة كانت واضحة وفحواها باختصار أن الديمقراطية تقتضي من الحكومة تنفيذ قرار الأغلبية، مهما بدت هذه الأغلبية ضئيلة، ومهما انطوى قرارها على تداعيات سلبية محتملة.
الشعب البريطاني لا يؤيد من يماطل أو يتردد، ولا يساند من يمارس الوصاية عليه بحجة المصلحة الوطنية. صناديق الاقتراع في المملكة المتحدة أثبتت ذلك في 2019، عندما عاد حزب المحافظين إلى السلطة بأكثرية نيابية مطلقة. المحافظون برئاسة جونسون لم يترددوا في الخروج أيا كان شكله، تمسكوا بالمبدأ حتى اللحظات الأخيرة من المفاوضات التجارية، وفي الوقت ذاته لم يدخروا جهدا للوصول إلى اتفاق. قدموا التنازلات التي لا تهدم الثوابت، لأن الهدف الأساسي كان وضع البلاد على المسار الصحيح بعد تنفيذ “بريكست”، وليس تحقيق مصلحة حزبية ضيقة، أو مجرد إرضاء فئة معينة من الشعب.
بوريس جونسون نفسه كرئيس للوزراء في مرحلة حرجة جدا من تاريخ المملكة المتحدة، يقدم نموذجا حقيقيا للسياسي الناجح. هو لم يكن بعيدا عن الأخطاء في العام الأصعب عليه وعلى البلاد ككل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكنه لم يستسلم. كان لديه كثير من الأعذار التي يمكن أن يسوقها لتأجيل الخروج على الأقل، بدءا من الوباء وليس انتهاء بالخوف من انقسام المملكة في حال فشل المفاوضات مع بروكسل، ولكنه لم يفعل وحافظ على تماسكه أمام جميع التحديات التي واجهت البلاد خلال 2020، فحصل على اتفاق مع الأوروبيين، وكانت بريطانيا أول دولة تقدم اللقاح المضاد لكورونا.
موقف المعارضة البريطانية من اتفاق ما بعد الخروج، يجدر الاهتمام به أيضا. فالخصمان الرئيسان للحكومة، حزب العمال والحزب القومي الأسكتلندي، تباينت مواقفهما منذ اللحظة الأولى للإعلان عن الاتفاق. زعيم العمال السير كير ستارمر أكد أن حزبه سيدعم الاتفاق تحت قبة البرلمان، أما رئيسة الحزب القومي ورئيسة وزراء أسكتلندا نيكولا ستيرجن، فقد وجدت في الاتفاق لحظة مناسبة للإعلان عن بدء مساعي الانفصال عن بريطانيا. صحيح أن مزاج الأسكتلنديين بات يميل للانفصال منذ استفتاء الخروج عام 2016، ولكن برأيي لم تكن ستيرجن موفقة في تجاهل القيمة أو الفرح الشعبي بالاتفاق.
الاختبار الأول لرغبة الأسكتلنديين في الانفصال عن بريطانيا العظمى بعد الاتفاق التجاري مع الاتحاد الأوروبي، سيكون في انتخابات برلمان أدنبرة خلال شهر مايو 2021. إن ظفر حزب ستيرجن بأكثرية غير مألوفة فهذا مؤشر على تيار قوي للطلاق مع لندن يسري في البلاد، أما إن كانت أكثريته في حدودها التقليدية أو كما هي عليه اليوم، واحد وستون مقعدا من أصل مئة وتسعة وعشرين، فهذا يقول إن أي معركة مقبلة على الانفصال ستكون أكثر شراسة من الاستفتاء الشعبي الذي جرى في أسكتلندا عام 2014، ذلك التصويت الذي انقسم حوله أفراد العائلة الواحدة ولا تزال تداعياته مستمرة إلى اليوم.
بالنسبة إلى حزب العمال، أكبر الأحزاب البريطانية في عضويته، وثانيها في كتلته البرلمانية بمجلسي العموم واللوردات، فقد تعلم الدرس من الانتخابات العامة الماضية التي خسر فيها بفارق ضخم أمام المحافظين، فقط لأنه تردد في تأييد رغبة الأغلبية في الخروج من الاتحاد الأوروبي. زعيمه الحالي ستارمر كان قد قاد حملة داخل الحزب للتراجع عن نتائج استفتاء 2016 في عهد سلفه جيرمي كوربين، لذلك هو يدرك تماما عاقبة تجاهل التوجه العام نحو الخروج، وهو يدرك أيضا أن المواجهة الحقيقية مع خصومه ستكون بعد “بريكست”، بكل ما تنطوي عليه المرحلة المقبلة من استحقاقات وتحديات كبيرة.
ولا يستقيم الحديث عن دروس “بريكست” دون التطرق إلى الجانب الأوروبي، فالتكتل من خلال الاتفاق مع لندن برهن على تماسكه وقدرته على احتواء التغيرات التي تهب عليه من الداخل والخارج. انتزع من المملكة المتحدة التنازلات التي تبقي دوله متوازنة في المنافسة التجارية العادلة مع الجارة القوية، وفي ذات الوقت حافظ على أهم شريك تجاري وسياسي وأمني للتكتل. يمكن القول ببساطة إنه تجاوز الانتقام من بريطانيا بسبب تمردها، وراهن على إمكاناته للحفاظ على وحدة أسرته، فالترغيب وليس الترهيب هو جل ما يحتاجه التكتل للبقاء على قيد الحياة، وهذا واحد من أهم دروس “بريكست”.
في هذا السياق لا بد من القول إن النجاح الأوروبي في الاتفاق مع بريطانيا لم يكن ليحدث لولا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فهذه السياسية المحنكة لم تضيع فرصة واحدة على مدار أكثر من ستة عشر عاما، للحفاظ على وحدة التكتل وتعزيز قوته. في بعض الأحيان كانت تتعسف بحق دولتها لصالحه، ولكنها تعرف أن الأجيال الألمانية والأوروبية المقبلة ستتذكر للمرأة الحديدية كل مواقفها التي حمت فيها مستقبل القارة العجوز. لقد قادت ميركل ألمانيا خلال المفاوضات مع لندن كرئيسة للاتحاد وليس كدولة تسعى لمصالحها، فكان لها ما أرادت واحتفل الجميع بنهاية سعيدة لأزمة “بريكست”.
السؤال عن الرابح والخاسر في الخروج بحد ذاته لن يعرف إجابة قبل عدة سنوات، ولكن المؤكد أن الأوروبيين والبريطانيين قد خرجوا رابحين في هذا الاستحقاق لديمقراطيتهم. ليس هذا فقط، وإنما ظفر العالم ككل في ملحمة “بريكست” بنماذج بالغة الأهمية في إدارة شؤون الدول تحت وطأة أقسى الظروف، نماذج ليس فقط في السياسات والاستراتيجيات، وإنما أيضا في الشخصيات المميزة التي خاضت مفاوضات “بريكست”، هؤلاء في غالبيتهم من الجنود المجهولين الآن، ولكن التاريخ سينصفهم حتما.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews