حين يبدو “الفلسطيني الحي” استثناء في الشرع الإسرائيلي… الأخرس نموذجاً

عندما يقرر شخص الإضراب عن الطعام احتجاجاً فإنه يؤمن بأن احتمالية موته ستكون قاسية على ضمائر الآخرين. وعندما يقرر شخص ما تجويع نفسه حتى الموت احتجاجاً فإنه يفعل ذلك، على الأرجح، من أجل إعطاء الآخرين الوقت والفرصة لوقفه. ولو أراد الشخص أن يموت احتجاجاً لقام بالانتحار مرة واحدة، ولا يمده أشهراً. المضرب عن الطعام ينتحر بعملية بطيئة لأنه يؤمن بأن شخصاً ما سيهب لمساعدته ويفعل ما هو مطلوب. المضرب عن الطعام يؤمن بأن لا أحد ما في هذا العالم يمكنه احتمال التفكير بأن يموت، وأن هذا الشخص، أو الأشخاص الذين يهمهم هذا الأمر، سيجرون التغيير الذي يطالب به المضرب عن الطعام في احتجاجه.

المعتقل الإداري الفلسطيني ماهر الأخرس مضرب عن الطعام منذ أكثر من مئة يوم احتجاجاً على اعتقاله بدون محاكمة. وهو يصمم على مواصلة الإضراب حتى إطلاق سراحه أو موته، من سيأتي أولاً. ولكن لو حاكمنا الأمور حسب تعامل الدولة ورد المحكمة العليا على الالتماس المقدم لإطلاق سراحه، والصدى الجماهيري الضعيف على اعتقاله وجوعه البطيء، يبدو أن الموت سيكون الخيار الأفضل.

إن توقع الأخرس بأن جهاز حقوق الإنسان في إسرائيل والعالم سيعمل على إطلاق سراحه، ظهر لي فجأة أنه مأخوذ من عالم آخر، من حقبة أخرى. فعلياً، تقريباً كل ما يتعلق بحياة الأخرس يبدو وكأنه مأخوذ من كتاب للتاريخ وصف نهاية القرن العشرين. كان الأخرس يبدو لي فجأة كمن يقف في الجانب الثاني من الصدع الذي قسم قارتنا إلى قسمين، أو بالأحرى – كمن هو موجود في الجانب الآخر في صدع الزمن. مطالبته من الإنسانية بأن تخرج عن طورها لتوافق على أن لا يموت، بدت لي وكأنها مأخوذة من زمن آخر. أين يعيش؟ بالطبع الإجابة ساذجة، فهو يعيش تحت حكم عسكري في المناطق المحتلة، في عالم قضائي مواز، في المكان الذي تعدّ فيه الاعتقالات الإدارية والتعذيب والموت أموراً عادية. ولكن في أي زمن يعيش؟

إن ضمير إسرائيل لا يوقظه الموت البطيء والمؤلم لفلسطيني، لأن الفلسطيني سبق ومات بالنسبة له. الفلسطيني الحي هو الاستثناء الذي ربما يوقظ الإسرائيليين. المجرمون يتعفنون في السجون ولا أحد يهتم بهم، لكن التفكير بأن تقبع بار رفائيلي في السجن كان أمراً غير محتمل. لأن وجود بار رفائيلي في السجن يعني انحرافاً عن صورة من يقبعون في السجن. و الشيءنفسه بالنسبة للفلسطينيين؛ فعندما يموتون يفعلون ما يفعله الفلسطينيون في صورتهم لدى الإسرائيليين. وقد كان للأخرس فرصة أكبر ليمس قلوب الإسرائيليين لو أنه تنكر على شكل حبة فوشار وغنى وهو يرتدي القناع. تخيلوا من يجلسون على المنصة في برنامج وهو يزأر “من هذا، من هذا، من هذا؟” قبل لحظة من رفعه للقناع، واوفيرا اسياغ تصرخ “أنت، أنا لا أصدق!، هذا هو الأخرس من الجهاد الإسلامي”. هذا بالطبع هوس، فلا توجد احتمالية كهذه ولا توجد نية لتقديم استشارة استراتيجية لمعتقل إداري أو للنضال الفلسطيني.

لقد حدث شيء ما. المقدمة التاريخية تغيرت. دونالد ترامب هو السبب أو النتيجة – تصعب معرفة ذلك، لكن ليس هناك شك في أن درجة حيوية كلمات ومفاهيم مثل حقوق الإنسان، ومنظمات حقوق إنسان، وممثلية الأمم المتحدة، تآكلت بدرجة لا تصدق، حتى لو أن هذا لا يروق لنا. وبدلاً من المشاهدة العبثية لشخص يدير عجلة التاريخ مرة أخرى، ليس هناك خيار سوى شق مسارات عمل جديدة. وإلا فإن الطريقة الوحيدة للتحرر ستكون الموت، وجميعنا، الفلسطينيون أيضاً، نريد أن نعيش.

هآرتس