الغرب في مواجهة سؤال المصير
لقي مؤتمر الأمن والدفاع في ميونيخ هذا العام اهتماماً إعلامياً واسعاً ربما فاق الاهتمام بمؤتمرات السنوات والعقود الماضية. وقد تم التركيز في كبريات الصحف العالمية على القضايا الآنيّة التي بحثها المؤتمر، مثل وجوب تخصيص الدول الأوروبية نسباً أعلى من ناتجها المحلي لميزانيات الدفاع (وهذا مطلب أمريكي قديم ولكنه صار موضوع ابتزاز منذ مجيء ترامب)، ورفض فرنسا الدعوات إلى وضع سلاحها النووي تحت إمرة حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي، بل ومناداتها بوجوب أن تتولى أوروبا حماية أمنها بنفسها (في استقلالية عن أمريكا)، وتجدد النزعة السلمية لدى قادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا وأثره في ظهور انقسامات داخل الحكومة الائتلافية حول التعهدات بالاضطلاع بدور أكبر في الشؤون الاستراتيجية الدولية، والمحاولة الأوروبية الرامية للإبقاء على نوع من المشاركة الأمريكية ضمن التحالف الدولي ضد داعش في العراق.
مسائل آنيّة هامة أنست الإعلام أن مؤتمر هذا العام قد عقد تحت عنوان: «نهاية الغرب» أو «حلول عصر اللا-غرب». عنوان مثير يدل على مدى القلق الذي ينتاب النخب الأوروبية من تزايد بؤر النزاع وتفاقم خطورتها بالتزامن مع اعتراض أمريكا على القواعد التي كانت متّبعة في مجابهة هذه المخاطر على مدى العقود السبعة الماضية. هذا مع استمرار تزايد الإنفاق العسكري، حيث كانت نسبة الزيادة العالمية العام الماضي 4 في المئة (وهي أعلى نسبة منذ عشرة أعوام) بينما زاد إنفاق أمريكا (685 مليار دولار) والصين (181 مليار دولار) بنسبة 6.6 في المئة. أما المقصود بنهاية الغرب، حسب التقرير المرجعي الذي نشره القائمون على المؤتمر، فهو ما تشهده البلدان الغربية اليوم من انتشار مشاعر التوجس والتململ والقلق الناجمة عن تعمّق الشكوك بشأن وجهة الغرب وغايته ومصيره، إذ أن الشعور السائد لدى الغربيين هو أن تفاقم المخاطر الأمنية المتعددة والمتنوعة في عالم اليوم إنما هو مظهر من مظاهر «انحطاط المشروع الغربي»، بل إنه يبدو، حسب قول رئيس المؤتمر السفير فولفغانغ إيشنغر، أن المجتمعات والحكومات الغربية قد فقدت أي فهم مشترك لما يعنيه مجرد الانتماء إلى الغرب.
نهاية الغرب أو حلول عصر اللا-غرب عنوان مثير يفيض بدلالاته وإيحاءاته عن سياق الأمن والدفاع لأنه مندرج، منذ أكثر من قرن، في سياق عام من الإنتاج الفكري الذي يكاد يكون متصلاً بلا انقطاع. إذ منذ أن دشن الألماني أوزوالد شبنغلر هذا التيار الفكري عام 1918 في كتابه الشهير «انحدار الغرب»، الذي تنبأ فيه بقرب انحطاط الغرب ثم بسقوطه النهائي، لا يكاد هاجس القلق حول مصير الحضارة الغربية يفارق المفكرين والباحثين الغربيين المدركين لمكمن المأساة في التاريخ. على أن غير المعروف، إلا في نطاق محدود، هو أن الأكاديمي البريطاني هالفورد ماكندر قد يكون أول من تنبأ، في مقال نشر عام 1904 بعنوان «المحور الجغرافي للتاريخ»، أّلاً بنهاية ما سمّاه «العصر الكولومبي» (نسبة إلى كريستوفر كولومبوس)، أي القرون الأربعة التي تفرّد فيها الغرب بالسيادة، وثانياً ببداية صعود آسيا، ممثلة على وجه الخصوص في الصين. وقد حلل ماكندر، الذي كان من مؤسسي كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية، عوامل صعود الحضارات وانحدارها من منظور تأثير الجغرافيا في السياسة. ولهذا فهو منشىء مدرسة الجغرافيا السياسية (جيوبولتيكس) في مبحث العلاقات الدولية.
ولم يعد يتوقف الأمر اليوم على التخوف أو التفجع على مصير الحضارة الغربية، بل إن الإجماع يكاد ينعقد لدى تيار واسع من الباحثين والساسة الغربيين على أن الانحدار قد بدأ فعلاً وأنه لا ناقض لمجرى التاريخ. وهذا مبعث تسمية هذا التيار الفكري بـ»التيار الانحداري». وتتراوح عناوين الكتابات والإصدارات المتنوعة في هذا الشأن من «هل انتهى مفهوم الغرب؟» إلى «إنها نهاية الغرب» فـ»قدّاس لراحة نفس الغرب»، بمعنى أن الغرب مات فعلاً ووجب تأبينه والترحم عليه. وإذا كانت هذه العناوين ربما تتعمد صدم جمهور الغربيين وقرع أسماعهم بأنباء الويل والثبور حتى لتبدو كأنها «أنباء موت مبالغ فيها»، فإن وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر قد عبّر عن المعنى ببساطة تقريرية خالية من المجاز والمؤثرات عندما قال في 5 كانون الأول/ديسمبر 2016: «إن أوروبا قد بلغت من الضعف والتشرذم حداً يعجزها عن أداء دور الولايات المتحدة استراتيجيّاً (أي عسكرياً)، وإذا افتقد الغرب الزعامة الأمريكية فإنه لا يقوى على البقاء. وعلى هذا فإن من شبه المحقق أن العالم الغربي، كما يعرفه الناس اليوم، سوف يفنى أمام أعيننا».
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews