زينات الميلاد في باريس وجنازات في القلب العربي

إذا كانت شجرة ميلادية علوها 25 متراً في بلدة روسية (كيميروفو في سيبيريا) سببت «فضيحة فساد» في روسيا لأنها كلفت أكثر من حوالي ربع مليون دولار، فإن باريس لا تبخل على زينة الميلاد في شوارعها على الرغم من أنف الإضرابات وأصحاب «السترات الصفراء» وسواهم، في فترة اضطرابات اجتماعية ومطالب مالية لها صلة بسن التقاعد الفرنسي، وغير ذلك.
ولكن أحداً في فرنسا لا يعترض على زينات الميلاد ورأس السنة في شوارع باريس وغيرها من المدن الفرنسية التي تتفنن في تجميل نفسها وزيناتها.
أزمة اقتصادية؟ حين يتعلق الأمر بزينات الميلاد ورأس السنة في باريس وسواها لا أحد يتحدث عن البذخ في الإنفاق.

يا 2020 كوني «جديدة» عربياً..

وأنا أمشي في شارع «الشانزيليزيه» الباريسي وأتأمل الشرايين الضــــوئية في أغصان الأشجار.. وأنا أمضي إلى المخازن الكبرى في «جادة هوسمان» وأتأمل واجـــــهاتها والدمـــى المتحركة فيها التي يتدافع الأطفال أمامها ويضحكون، وأمد برأسي بينهم (ففي أعــــماق كل منا طفل سري صغير).. وأنا أمشي حتى ساحة الفاندوم الفاخرة المشعة.. لباعة المجوهرات الثمينة جداً.. وأنا أتسكع حتى في شوارع باريسية (غير سياحية) ولا تجارية كشارع «سان شارل» المتفرع عن شارع «إميل زولا» وأجدهما أيضاً يرقصان بالزينات. وأعرف أن زينات الميلاد تعني الكثير لباريس حتى لأحيائها نصف الوجيهة لمتوسطي الحال.
ولكن في القلب العربي جنازات… إذ نتذكر ما يدور في بعض أوطاننا العربية من أحزان وتحركات غاضبة وأزمات مالية، وقد نستقبل السنة الجديدة ببعض القتلى هنا وهناك، ووحدها بعض أقطارنا العربية المستقرة أو التي انتصرت فيها الديمقراطية أخيراً تستطيع الاحتفاء.. وإسرائيل هي المحتفل الأكبر؛ فقد حققت في السنة الماضية انتصارات، وبالأحرى سرقات إضافية من الأرض الفلسطينية.

من يعيد له 24 سنة مسروقة؟

ثمة أخبار تلفتني.. منها خبر ذلك السجين الأمريكي دونتاي شارب وعمره 44 سنة في (نورث كارولينا) الذي سجن وكان عمره 19 سنة، طوال 24 سنة، ثم اكتشفوا براءته الآن وأطلقوا سراحه! وكان قبلاً قد أدين بقتل جورج رادكليف بسبب شهادة كاذبة. أفكر في قسوة أن يكون الإنسان سجيناً لذنب لم يرتكبه طوال أعوام وأعوام… أو أن يكون سجيناً لذنب يفخر به ألا وهو النضال من أجل حرية وطنه (الفلسطيني مثلاً) ولأجل أن تسود العدالة في أقطار عربية عديدة. ما أكثر السجناء العرب الذين يتم نسيانهم في السجون دونما محاكمة أو إدانتهم بمحاكمة مزيفة وبشهود عملاء! ومن أقسى أنواع السجون هي التي تضم المنسيين فيها بلا محاكمة!!
مع هذه السنة الجديدة التي تقترب منا، أتمنى أن تعم الزينات القلوب العربية بدل الجنازات.. هل أحلم؟ ولم لا.. حق الحلم لا يمكن مصادرته، وحتى السجناء يستطيعون الحلم بالحرية.. فأجمل ما في الحلم أن صاحبه يكتب السيناريو بنفسه ويعيشه حين ينام. أجمل ما في الأحلام أنها الحرية المطلقة، ولا يستطيع أي حاكم أن يملي على سجينه أحلامه. الحالم يكتب بلا وعيه سيناريو أحداث حلمه، وويل لأي ظالم من أحلام السجين المظلوم حين تتحقق.

سنة جديدة تقترب فلنبتسم بمرارة!

ثمة رتيلاء (مشردة) سيئة الحظ وجدت نفسها داخل كيس من الموز استورده أحد المخازن الفرنسية من بلدة مدارية وأثارت هلعاً.
زبونة تشهد بأنها لامست سيقانها التي يغطيها الوبر… والأخرى تشهد على الحجم الضخم لتلك الرتيلاء، وزبون آخر أقسم ألا يذوق الموز بعد ذلك، ففي البلاد المرفهة المستقرة يبدو حتى وجود رتيلاء في كيس أمراً مقلقاً، وتحار بين الضحك لما صار خبراً في الصحف أو الأسف على حالنا ونحن نتعايش في بعض أقطارنا مع رتيلاءات بشرية سامة تحكمنا!

الشجاعة مصدر تفاؤل دائم

أحب ان أتـــــذكر مع اقتراب السنة الجديدة نمــــطاً آخر من المقاومين.. أي ضــــد المرض. وهم يبعثــــون في القــــلوب التفاؤل..
هذه مذيعة أخبار الطقس في القناة الفرنسية رقم 1 واسمها ايفلين ديليا تعلن أنها مريضة بالسرطان وقاومته ونجت. فوجئت بالخبر، فأنا أعرف أنها ستينية لكنها تبدو شابة ورشيقة ونضرة الابتسامة. إنها الشجاعة التي تبعث ضوء الأمل كزينات شوارع باريس.. وثمة أيضاً برنار تابي، الوزير الفرنسي السابق الذي جاء من مارسيليا من أصل متواضع، ونجح وصار ثرياً جداً يوماً، ومفلساً في اليوم الآخر، فثرياً من جديد!
وفوق ذلك كله أصيب بمرض السرطان، وقال الأطباء إن مرضه استفحل وصار في مراحله الأخيرة، لكنه صرح قبل السنة الجديدة بأسابيع قائلاً حرفياً: بالنسبة لي أنا لست في «مرحلتي الأخيرة». حسناً، أصبت بالسرطان في المعدة والحبال الصوتية والعظام والآن في الرئتين.. ولكن لدي أولادي الذين أبادلهم المحبة كما زوجتي وأصدقائي وعملي..
والأمثلة العربية الشجاعة في مواجهة المرض لا تعوزنا.

ميلاد مجيد للأحباء المسيحيين

كم أحب الشجاعة في مواجهة الكوارث الشخصية الخاصة والعامة، وتعم الزينات في قلبي أمام ما لا يخلو منه عالمنا العربي من شجاعة ضد العدو، سواء كان محلياً أو إسرائيلياً، ومن مواجهة للأعوام التي تمر دون أن تحمل لنا معها لحظات السعادة أو الهدنة من الأحزان..
وأختم بالتمني للأحباء المسيحيين العرب وغير العرب، بأعياد ميلاد سعيدة نشاركهم إياها بكل تقدير ومحبة وبشوارع مضيئة بالزينات داخل قولبنا نحوهم.

القدس العربي