هل صار «الحنين إلى الاستعمار» مشرعاً في الجزائر؟
منذ ربع قرن ونيف سطعت قضية «المُجاهدين المزيفين» في الجزائر، ويُقصد منها أن أسماء كثيرة تسللت إلى قائمة مناضلي حرب التحرير، بعد الاستقلال، ونسبت إلى نفسها، زوراً، صفة مجاهد، وقد كشف عن ذلك الملف الملغم وقتذاك موظف عالي المستوى في وزارة العدل، يُدعى بن يوسف ملوك، من يومها سُلطت المظالم على الرجل ولا تزال، بينما قضية «المجاهدين المزيفين» لم تخمد، والأسوأ من ذلك، بحسب ملوك، أن الكثير منهم أمسوا يشغلون مناصب عليا في الدولة، ويستفيدون من نفوذهم وسلطتهم في طمر كل تحقيق تاريخي حول القضية.
وعلى الرغم من هذا التستر لم تتوقف دعوات غير رسمية، من مواطنين أو من تنظيمات غير حكومية، تصر على ضرورة إعادة النظر في قائمة المجاهدين، وتطهيرها، لاسيما أن أولئك يتمتعون بامتيازات تجعل منهم مواطنين فوق العادة، ومرت سنوات منذ صرخة بن يوسف ملوك، وهو يرفع دلائل على أقواله، لكن لا شيء تغير، ولم يُعد النظر في أعداد المجاهدين، في الجزائر، مع أن تعريف المجاهد قانونياً يقتضي «مشاركة في ثورة التحرير ومن دون انقطاع، خلال الفترة ما بين أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954 و19 مارس/آذار 1962».
إن قضية المجاهدين المزيفين تُحيلنا إلى قضية «الحركي المزيفين أو المظلومين»، ويقصد بكلمة الحركي من ثبتت عليهم تهمة الخيانة، والعمل مع الإدارة الاستعمارية، فبحسب شهادات كثيرة، كانت صفة «حركي» توزع جزافاً، في تصفية حسابات شخصية، تلت وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962. ويمكن ـ في هذا الشأن ـ العودة إلى كتابين مهمين صدرا في السنوات الأخيرة: «الحركي» لمحمد بن جبار و«فن الخسران» لآليس زينتار، حيث نتبين أن قائمة الحركي أو من يظن أنهم خونة تضمنت عسفاً وضيماً، وكثيراً ما دست التهمة لشخص ما بغرض سلبه حقاً معنوياً أو مادياً، بالتالي فإن السعي إلى تطهير قائمة المجاهدين لا ينفصل عن ضرورة تطهير قائمة من أُطلق عليهم الحركي، وإعادة الحق لأصحابه، ويمكن أن نستعين في ذلك بكتاب «التابو الأخير، الحركي الذين بقوا في الجزائر بعد الاستقلال» للباحث بيار دوم.
انتقلت المنهجية التي استعان بها الاستعمار في التفرقة بين الجزائريين إلى الجزائريين أنفسهم، فمع بدء حرب التحرير، سرت «الوشاية» إلى كل شخص يلتحق بالمقاومة، يُشار إليه بالإصبع بمصطلح «فلاقة»، كي يُساق إلى السجن، ثم الاستنطاق، وفي بعض الحالات إلى التجنيد العكسي، ومثلما فعل الاستعمار فعل جزائريون في ربع الساعة الأخيرة من حرب الاستقلال، اعتمد بعض منهم على «الوشاية» في التبليغ عن «حركي»، قد يكون فعلا كذلك، وأحياناً كثيرة رغبة منهم في مطامع صغيرة، من الاستحواذ على أراضٍ وشقق وممتلكات، فتحولت الوشاية إلى قانون، من دون الحاجة إلى إثبات أو دليل، واقتبس المُضطهَد من المُضطهِد تعاليمه، وخرج الاستعمار ـ عسكرياً ـ لكن شرائعه لم تزل تسري، في لاوعي الناس، رغم أنف كل الخطابات والقوانين، التي تنحاز إلى تجريم الاستعمار، لم تفلح الأنظمة المتعاقبة في محو أثره من الذهنيات.
ظهر منتصف هذا الأسبوع وزير الداخلية صلاح الدين دحمون، الذي عينه بوتفليقة في إبريل/نيسان الماضي قبل أن يُطيح به الحراك الشعبي، كي يثبت مرة أخرى أن السلطة تلميذ نجيب في مدرسة الحنين إلى الاستعمار، في استعادة إلى تعاليم الماضي، ونثر التهم بالخيانة كما تعلموها سنوات حرب التحرير، ونعت المتظاهرين، الذين يخرجون كل أسبوع في رفضهم للانتخابات الرئاسية ﺑ«أشباه جزائريين.. خونة.. مرتزقة.. شواذ.. مثليين..»، مختتماً حفلة توزيع التهم: «هم ليسوا منا ونحن لسنا منهم»، ناعتاً إياهم ببقايا «الاستعمار الغاشم» من دون أن ينتبه لحظة واحدة إلى أنه بصدد تكرار ما لقنه إياه الاستعمار ومن سبقوه. إن كلام وزير الداخلية، الذي من موقعه لا يعبر عن موقف ذاتي، بل عن موقف رسمي، ليس مجرد اتهام يصح الرد عليه أو نفيه، بل يصل الأمر إلى مُساءلة جادة، كيف ببلد تحرر منذ ما يقرب من ستين سنة، لا يفتأ يجتر الخطاب الكولونيالي، ويوجهه إلى مواطنيه، كما لو أننا لم نتجاوز سنة 1962؟ ما زلنا حين نود تعرية خصم نصفه بالحركي أو العميل، ونتبرأ منه بتلك الطريقة، مثلما فعل أحباب الجزائر الفرنسية، حين كانوا يريدون التخلص من شخص ما، فيشيعون عنه أنه فلاقة أو مجاهد. لم يكن الأمر يستحق أن يأخذ مساحة من الكلام، لو صدر عن شخص عادي، لكنه صدر عن مسؤول عالٍ في الدولة، فكيف بمن صار يجرّم الحنين إلى الاستعمار، ينحدر إلى الحنين إليه؟
حين جاهر ذلك الوزير بكلامه، فهو يعلم إن من بين المتظاهرين والأشخاص الرافضين للانتخابات مناضلين لا غبار عليهم، من بين أولئك الذين ناضلوا في حرب التحرير، ولولاهم لما صار وزيراً ولا حلم بمنصب متقدم أبداً، نذكر منهم الرائد لخضر بورقعة، الذي زج به في السجن نظراً لمكانته المتقدمة في الحراك الشعبي، جميلة بوحيرد التي كانت من أوائل من خرجوا إلى الشارع، المناضلتين زهرة ظريف ولويزة إغيل أحريز وشقيقة الشهيد العربي بن مهيدي، فهل هؤلاء أيضاً «مرتزقة وخونة وأشباه جزائريين»؟
في المقابل، استبشر أنصار العسكر، والطامعون إلى التقاط الفتات بعد الانتخابات الرئاسية بكلام وزير الداخلية، لا سيما عبارة «شواذ» فالجزائر اليوم تحولت إلى «جنة الهوموفوبيا»، ومن أراد أن يقلل من شأن مواطن له يكفيه نعته بالمثلي أو الشاذ، كما لو أنها جرم مشهود، لقد وجد الوزير في بركان الانتقادات التي وجهت إليه أنصاراً له، وعدنا مرة أخرى إلى نقطة البداية، في تدوير الحنين إلى الاستعمار، وترويج خطابه، من دون وعي، كما لو أن الجزائر بعد كل هذه العقود لم تتقدم خطوة إلى الأمام، ولا تزال في حجر الكولونيالية، ينتقم فيها الناس من بعضهم بعضا بتوزيع الوشايات والتهم، وكل طرف يظن نفسه أكثر جزائرية من الآخر.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews