فتح الصندوق الأسود… مأساة عرب الأحواز

مسائل الحرية والعدل، والانتصار للمظلومين والدفاع عن المضطهدين، قضية لا تتجزأ، ومن قبل الظلم لجماعة على أساس عرقي أو ديني أو لغوي أو جنساني، فإنما يقبل أو يتسامح مع الظلم والتمييز بشكل مطلق. وليس من العدل أن يكون تأييد قضايا الحق والعدل انتقائيا، لذلك رأينا أن نفتح الصندوق الأسود، ونتكلم عن موضوع يكاد يكون مغيبا تماما بعيدا عن الآذان والعيون والكاميرات وأمواج الأثير. قضية مأساوية يعيشها أبناء وبنات وشيوخ وأطفال منطقة الأحواز العربية، التي تنسج فصولها لأكثر من 90 عاما، عندما تم سلخ هذا الجزء من العالم العربي وأضيف قسرا إلى إيران. وعندما نفتح هذا الملف لا نتوخى إلا الحقائق، وبعد أن جمعنا من الوثائق والمعلومات الشيء الكثير.
يقع إقليم الأحواز في الجنوب الشرقي من العراق، والأقرب إلى محافظتي البصرة وميسان، ويطل على شط العرب والخليج العربي، ويقطنة ثمانية ملايين عربي بنسبة 99% لكن هذه النسبة انخفضت قليلا بسبب تشجيع الأعراق الأخرى للانتقال إلى المنطقة. مساحة الإقليم كانت أصلا 377000 كم مربع اقتطعت منها عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة، وألحقت بالأقاليم المجاورة. والسهول الرسوبية في الأحواز وجنوب العراق متماثلة، فأراضيهما تكونت في وقت واحد من ترسبات دجلة والفرات ونهر كارون الأحوازي وتفرعاته، ما أدى إلى ظهور الأراضي الحديثة على جانبي شط العرب، الذي يتكون من ضفتين أحوازية وعراقية، لذلك فإن سهل عربستان والسهل الجنوبي من العراق يشكلان امتدادا طبيعيا لبعضهما بعضا.
في العشرين من إبريل 1925 تم احتلال إقليم الأحواز العربي (عربستان) من قبل النظام الإيراني الشاهنشاهي، بعد أن تم استدراج الشيخ خزعل الكعبي حاكم البلاد إلى فخ نُصب له من قِبل قائد الجيش الإيراني الجنرال زهدي، من أجل إجراء مباحثات، إلا أن الجنرال زهدي قام باعتقال الشيخ خزعل، وتم إيداعه سجون طهران مع مجموعة من مرافقيه حتى عام 1936 حيث اغتالت يد الغدر الشيخ خزعل وصحبه، ومنذ هذا الوقت وأرض الأحواز وشعبه يعاني من التقتيل والتشريد والعنصرية لكنه ظل يقاوم.
لم يترك النظام البهلوي وسيلة لقمع التحركات والانتفاضات الشعبية إلا مارسها، بهدف تفريس المنطقة واقتلاع جذورها العربية. وهذه الممارسات لم تتوقف مع سقوط الشاه محمد رضا بهلوي، بل استمرت وتضاعفت في عهد الجمهورية الإسلامية وسنذكر بعضا من هذه الأساليب الموثقة:
– فرض اللغة الفارسية لغة رسمية، مع إهمال متعمد لتعليم اللغة العربية، ومنع المنشورات أو المطبوعات أو الإذاعات المحلية باللغة العربية.
– تحويل مجاري الأنهار إلى الداخل الإيراني، لقتل الأراضي الزراعية في الأحواز وتجفيف مصادر الرزق الأساسية للسكان، بهدف هجرتهم إلى مناطق داخل إيران كي يذوبوا في الجنسيات الأخرى.
– فرض الأسماء الفارسية للمواليد، ومن يصر على اسم عربي مخالف للذوق العام الإيراني فيمنعون عنه الوثائق الرسمية.
– التضيق على شباب الأحواز بإغلاق مجالات العمل، حتى يضطروا للهجرة إلى الداخل الإيراني ويعود ارتباطهم بأماكن عملهم البعيدة.
– إلغاء مؤسسات الحكم العربي السياسية والإدارية والقضائية، وإعلان الحكم العسكري المباشر في عربستان.
– الحرمان من أبسط الحقوق والحريات السياسية، التي تقضي بحق الشعب في المشاركة في حكم بلده، سواء بصورة مباشرة أو بواسطة ممثلين عنه يختارهم اختياراً حراً.
– حرمان العرب من امتلاك الأراضي الزراعية، ومصادرة جميع الأراضي التي كان يملكها العرب وكذلك العقارات.
لأكثر من 90 سنة والشعب العربي في الأحواز يقاوم التفريس والاقتلاع والقهر، ويرفض أن يغادر بلاده، حتى أن أهزوجة شعبية أصبح عنوان هذا الصمود تقول «بكينا الشط والشط ما بكانا». لقد ظلت المقاومة للهيمنة الفارسية تأخذ طابعا قبليا إلى أن تم تأسيس جبهة تحرير عربستان عام 1958 المتأثرة بالمد القومي الذي كان يمثله الزعيم جمال عبد الناصر، ثم اتسعت الجبهة، وشكلت اللجنة القومية العليا لتحرير عربستان بقيادة الزعيم محيي الدين آل ناصر، التي تلقت الدعم من مصر وسوريا والعراق، إلا أن المخابرات الإيرانية السافاك بدعم من الموساد الإسرائيلي استطاعت أن تخترق الجبهة، وتعتقل قياداتها وتعدمهم رميا بالرصاص يوم 13 يونيو 1964 بمن فيهم آل ناصر.

بعد أن سيطر حزب البعث العراقي على الحكم في العراق عام 1968 بدأ يدعم نضال الأحواز، حيث تم إنشاء الجبهة الشعبية لتحرير الأحواز، وقد زلزلت هذه الجبهة الأرض تحت أرجل السافاك وعملائه في الأحواز، لكن الضربة الموجعة التي تلقاها الثوار عند توقيع اتفاقية شط العرب في الجزائر عام 1975 بين صدام حسين ومحمد رضا بهلوي. أوقف صدام دعمه للأحوازيين مقابل وقف الشاه دعمه لأكراد العراق. وقد تفاءل عرب الأحواز بسقوط الشاه وانتصار الثورة الإسلامية بقيادة الخميني، فقاموا بإنشاء جمعيات عربية تثقيفية في كافة مراكز المدن الأحوازية، لكن نظام الملالي توجس شرا من هذه التجمعات الثقافية، وقام بإغلاقها ومصادرة ممتلكاتها واقتحام المدن والقرى، وارتكاب العديد من المجازر. فلم يجد السكان العرب إلا العودة إلى الكفاح، فأنشأوا تنظيما جديدا يدعى «الحركة الجماهيرية العربية لتحرير الأحواز» خلال الحرب العراقية الإيرانية، مستفيدين من الأوضاع المستجدة، حيث ابتدعوا أساليب منوعة وجديدة لمقارعة الأجهزة الأمنية الإيرانية في سبيل الحفاظ على هويتهم الحضارية ووجودهم العربي.
من بين أساليب النضال تشكيل عدد كبير من الأحزاب والتنظيمات السياسية والثقافية والعسكرية، التي أخذت على عاتقها سد الثغرات، ومتابعة طريق الكفاح الوطني الأحوازي، لبلوغ الأهداف المرجوّة، حيث اتسمت فترة التسعينيات من القرن الماضي بنشوء وتشكل عدد من التنظيمات السياسية الأحوازية في الداخل والخارج تجاوز عددها ثلاثة عشر بين تنظيم وحركة سياسية. وفي هذه الفترة، وحسب تقرير لصحيفة «الغارديان» اللندنية، انتشرت ظاهرة تحول الشيعة العرب إلى الإسلام السني، وهي جريمة يعاقب عليها القانون غير المكتوب في إيران، ما زاد من حدة الملاحقة والاضطهاد، وارتكاب الانتهاكات البشعة بحق المواطنين العرب.
في إبريل 2005 تم تسريب وثيقة من مكتب الرئيس محمد خاتمي تنص على «خطة لإعادة الهيكلة العرقية في منطقة الأحواز» ما خلق غضبا شديدا بين فئات الشعب العربي في الأحواز، وفجّر انتفاضة عارمة عمّت كل مدن وقرى الأحواز من شماله إلى جنوبه، في يوم 15 إبريل 2005 خرجت الجماهير إلى الشوارع معبرة عن رفضها واحتجاجها على سياسة التفريس المتبعة من قبل طهران. هذه الانتفاضة خلقت واقعا جديدا في حياة الشعب العربي في الأحواز على كل الأصعدة، وفتحت آفاقا جديدة لطرح قضية الأحواز على المستويين العربي والدولي وحطمت التعتيم الإعلامي.
اضطهاد العرب والعمل على تشتيتهم لم ينته لغاية اللحظة، فقد شهدت منطقة الأحواز سيولا عارمة في نهايات شهر مارس الماضي، وبدل أن تقوم الدولة بمساعدة الأهالي في حماية بيوتهم وأراضيهم، قامت بفتح عبارات السدود الواقعة على ثلاثة أنهر لتغرق الأراضي الزراعية بالمياه، ومن ثم إجبار السكان على الرحيل. يقول أهالي الرفيع الذين منيت قراهم وأراضيهم الزراعية بخسائر فادحة، جراء السيول والإغراق المتعمد «كانت المياه تجرف كل ما في طريقها شجرا ومحاصيل زراعية وحتى منازل مشيدة على عجل، فيضطر سكانها لإخلاء منازلهم قبل أن تقع الكارثة:. كما فتحت السلطات الايرانية بوابات من سد عباس بور الواقع في مسجد سليمان، بعدما فتحت بوابات ثلاثة من السدود في الأحواز: سد مارون وسد الدز وسد الكرخة، بحجة ارتفاع نسبة المياه خلف تلك السدود، حسب بيان إيران الرسمي. وقد شهدت القرى الأحوازية اشتباكات بين اهالي تلك القرى وقوات الحرس الثوري الايراني، الذي يحاول تحريف مجرى مياه السدود والفيضانات على تلك الأراضي الزراعية في القرى الأحوازية، ما أدى إلى سقوط خمس ضحايا أحوازيين برصاص قوات الأمن، وجرح العشرات، وتشريد عشرات الألوف من المنطقة، وهو ما تسعى إليه السلطات الإيرانية. لقد وصلتني عشرات الأشرطة المصورة لفتح عبارات السدود وتشريد السكان، والشيء المؤكد الذي يستخلصه المراقب، أن تلك العمليات متعمدة ولا بد من الحديث عنها بالتفصيل في مقال لاحق.
إن مشكلة عرب الأحواز معقدة جدا، خاصة بعد غياب من كانوا يدعمونها، فلا العرب قادرون على الدعم ولا الأوروبيون يودون المغامرة خوف تهديد مصالحهم في إيران والمنطقة، ولا إيران ترعوي عن هذا التصرف الخطير، الذي قد يعجل في نهاية حكم الملالي في إيران. إن تدويل المسألة قد يكون المخرج الأبسط لتسليط الأضواء على معاناتهم، ووضع هذا المعاناة تحت مجهر المجتمع الدولي، لعل شيئا ما يحدث وينقذ الملايين من أبناء العروبة في الأحواز.

القدس العربي