حتى لا يستبد بنا اليأس في الجزائر
بعيداً عن الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 كانون الأول (ديسمبر) المقبل ورغم كل الجهود لتنظيمها في أجواء غير صحية، يحق للجزائريين أن يفتخروا بما أنجزوا ويرفعوا رؤوسهم عاليا. تسعة أشهر من المثابرة على التظاهر السلمي في عشرات المدن. ملايين الرجال والنساء من مختلف الأعمار والأطياف والمشارب والمناطق خرجوا كل جمعة وكل ثلاثاء، بلا كلل ولا ملل، في حر الصيف وبرد الشتاء وقسوة صوم رمضان، ليصرخوا بأنهم يريدون الحرية والكرامة ودولة القانون لهم ولأبنائهم.
كانت تسعة أشهر من الفرح والبهجة والتفاؤل، رغم ما تخللها من اعتقالات ومضايقات ودسائس حاكتها السلطات السياسية والأمنية منذ ما قبل بداية الصيف، عندما انتظرت هذه السلطات أن يبلع الناس الطعم ويعودوا إلى بيوتهم بمجرد تنحي المخلوع وسجن شقيقه وأفراد عصابته.
ليس من الإنصاف أن يقع الجزائريون في فخ التشاؤم والحيرة والتساؤلات. الحراك حقق الكثير.. كسر جدار الخوف وحطّم أساطير وغيّر واقعا اعتقد الجزائريون في لحظة ما أنه يستحيل أن يتغيّر، فتحررت البلاد، ولن تنفع محاولات إعادة الناس إلى الأقفاص.
هنا الفرق الشاسع بين طرفي المعادلة: السلطة تسوّق إلى أن البلاد في مأزق وأن عليها إنقاذها منه، لكن الشارع الحُر المتحرر يؤمن بأنه خرج من مأزق، وبأن المطلوب منه أن يواصل الضغط حتى لا تُسرق مكتسباته. السلطة تعتبر أن استمرار التظاهرات مشكلة، والشارع يرى في استمرارها علامة على نضجه ووعيه وتمسكه بحقوقه، ورسالة مفادها أن زمن التدجين ولّى. استمرار الحراك مشكلة للسلطة، نعم، لأنها مأزومة وبلا حلول غير انتخابات رئاسية يرفضها قطاع واسع من المجتمع.
ما تعيشه الجزائر حاليا أزمة من وجهة نظر السلطة ورجالها وعبيدها، لأنه يعرقل مخططاتهم الساعية إلى تكريس الأمر الواقع والحفاظ على «البوتفليقية» من دون بوتفليقة. ولأنه خيّب آمال أولئك الذين، في السلطة وخارجها، سوَّقوا أن الهدف من 22 شباط (فبراير) تحقق بتنحي المخلوع واعتقال عصابته، فلم يعد هناك داعٍ للتظاهر. غير أن الحيلة لم تنطلِ على الناس فرفضوا العودة إلى بيوتهم، لأن العودة كانت ستعني الانسحاب في منتصف الطريق. ولذا كان طبيعيا أن تصاب السلطة بالسعار وتبذل المستحيل لإفشال الحراك.
أما في واقع الأمر فما يجري هو كل شيء إلا أزمة.
يحق للجزائريين أن يتباهوا ويفتخروا، على الرغم من الجهود المبذولة في الدوائر المظلمة لصناعة أصنام بديلة للصنم الذي أسقطه الجزائريون. بفضل تظاهرات الجزائريات والجزائريين، وليس بفضل أيّ كان:
ـ خرج بوتفليقة من الباب الضيّق مطرودا دون أن يأسف عليه أحد.
ـ يوجد ما لا يقل عن عشرين مسؤولا رفيعا بين رئيس حكومة ووزير وقائد أمني ووالي في السجون المدنية والعسكرية.
ـ أصبح المسؤولون يتوددون للشعب بعد أن احتقروه عقوداً طويلة.
ـ كثير من المسؤولين يمسكون بطونهم خوفا من المساءلة والحساب.
ـ تذوَّق القضاة طَعم الحرية ولو بسرعة.
ـ أصبحت عبارات من قبيل «الرشوة» و«الفساد» و«التشيبة» لعنةً ومرادفا للانحطاط وقلة الأخلاق والمحاكمات، بعد أن ظلت لعقدين مرادفا للشطارة والنجاح والتميّز.
ـ الرئيس المقبل وغيره من الطامحين لمناصب المسؤولية أو المرشحين لها يحسبون حساب الشارع وردّاته، بعد أن ترعرعوا في كنف حسابات الولاء للزُمر والشلل والتوازنات داخل السلطة.
في المقابل، هناك الكثير من العلامات المقلقة إلى حد كبير في دلالتها على وجود رغبة عارمة لتحطيم آمال وأحلام الجزائريين. من هذه العلامات عودة الإعلام الحكومي إلى ممارسات أسوأ مما كان في عهد المخلوع، واستيلاء الخوف على كثير من الإعلام الخاص. ومنها أيضا استمرار خطاب الاتهام والتخوين يمنة وشمالا، ومبالغة التلفزيون الحكومي في تغطية المسيرات «العفوية» الداعمة للانتخابات والتي تحيلك إلى زمن «قسمة حاسي معماش تدين التدخل الأمريكي في شؤون بانما»، وغير ذلك.
لكن الأهم وسط الصورة التي يراها كثيرون قاتمة ومقلقة، أن جدار الصمت تشقق وثقافة الخوف إلى زوال. إنها مسألة وقت فقط. العودة إلى ما قبل 22 شباط (فبراير) 2019 ليست فقط صعبة، إنما مستحيلة. يكفي فقط النظر إلى تظاهرات الجمعة والثلاثاء بقليل من التأمل: وجوه الناس، لغة أجسادهم، شعاراتهم، غضبهم، إصرارهم.. إلخ ليتأكد المرء من أننا أمام جزائر أخرى ليت مَن في السلطة يفهمونها.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews