ترامب و«مرشحه المفضل» في تونس

حتى الأربعاء كان من المعقول المطالبة بوجوب الإفراج عن المرشح الرئاسي نبيل القروي لكي يتمكن من خوض الحملة الانتخابية ومناظرة منافسه الأستاذ قيس سعيّد. وكان من المعقول التذكير بأنه لم يحدث أن وضع مرشح رئاسي رهن الحبس قبيل بدء الانتخابات حتى في دول الاستبداد التي تحرص شكليا على أن تظهر للعالم أن لديها انتخابات منتظمة تشارك فيها أحزاب وشخصيات من المعارضة. بل إن بوتين ذاته لم يفعلها، ظنا بنفسه أن يتدحرج إلى هذا الدرك، رغم أنه لا يتورع عادة عن أي منكر. حتى الأربعاء كان من المعقول التذكير بأن جميع التوانسة يعلمون أن هنالك كثيرا من ملفات الفساد المهملة في الأدراج منذ سنوات وألاّ سبب لتحريك ملف القروي خصيصا، قبل بدء الحملة الانتخابية بأيام، إلا الخوف من احتمال فوزه. فقد ثبت أن نتائج استطلاعات الرأي غير المنشورة التي أجريت في النصف الأول من هذا العام بينت أن حظوظه وافرة (والطريف أن النتائج ذاتها بينت أن حظوظ الأستاذ قيس سعيّد وافرة أيضا، ولكن ما حيلة منظومة الحكم مع رجل بلا ملفات؟!).
حتى الأربعاء كان من المعقول المطالبة بأضعف الإيمان، أي بضمان تكافؤ الفرص بين المرشحين لأن المنافسة بين من هو حر طليق وبين من هو حبيس متظلّم ليست منافسة عادلة. صحيح أن الأستاذ سعيّد يعتبر، مثلما قال في حواره مع التلفزة الوطنية، أنه «لا ينافس أحدا» وأنه يخوض «حملة تفسيرية»، لا حملة انتخابية. ولكن، أيّا كان تصوره عن طبيعة انخراطه في العمل السياسي، فالواقع أن الناخبين سيختارون بينه وبين مرشح آخر. وهذا يعني أنه قد صار فعلا في وضع منافسة على كسب الأصوات. فهل يرضى بأن يبدو منافسه في صورة الضحية التي تألبت عليها الطبقة السياسية بأكملها؟ وهل يكفي أن يصرح للتلفزة بأن هذا الوضع غير مريح بالنسبة له ولكنه غير مسؤول عنه؟ وهل يكفي أن يقلل من ظهوره في وسائل الإعلام حتى لا يظهر كأنه ينتهز الامتياز الاستثنائي السانح؟

حتى الأربعاء كان كل ما سبق ذكره معقولا. ولكن الخبر الذي انتشر ذلك اليوم قد غير الوضع. فقد نبه الباحث في معهد بروكنغز شاران غريوال في تغريدة على تويتر إلى وثائق منشورة على موقع وزارة العدل الأمريكية تظهر أن القروي وقع يوم 19 آب/أغسطس عقدا بقيمة مليون دولار مع شركة العلاقات العامة الكندية «ديكنز أند مادسون» التي يديرها الضابط السابق في الموساد آري بن ميناشي بهدف تأمين اجتماع للقروي مع ترامب وبوتين في إطار محاولة حشد «الدعم المادي» لحملته الانتخابية.

وما يعنيه هذا أن القروي طلب خدمات شركة «لوبينغ» كندية اعتقادا منه أن الدعم الدولي كفيل بأن ييسّر له الفوز. ويبدو أنه كان لديه ولدى الخبير المالي محمد بودربالة، الذي وقع العقد لفائدته، معطيات جعلتهما يصدّقان أن آري بن ميناشي قادر فعلا على ترتيب لقاء للقروي مع ترامب وبوتين. وممّا ينص عليه العقد أن بن ميناشي «يعرض ممارسة الضغوط وبذل المساعي (..) في الولايات المتحدة (..) لدعم جهود نبيل القروي الرامية إلى الفوز برئاسة تونس».
هل يفلت القروي من الحساب على هذه الأعمال التي يعدّها القانون الانتخابي جريمة موجبة لإسقاط الترشح؟ ربما. ولكن حقيقته افتضحت: سياسي مهزوز يستنصر بالخارج أملا في أن يصير «مرشح ترامب المفضل»، مثلما أن السيسي دكتاتوره المفضل. كأن لم يكف هذا البرلسكوني التونسي أنه يخوض منذ حوالي عامين حملة انتخابية مقنّعة في شكل أعمال خيرية تروج لها قناته التلفزية، باستعراضية سافرة، صباح مساء.
إلا أن القائمين على حملة القروي تحركوا، حسب المتوقع، وأنكروا أن يكون لمرشحهم أي علاقة بهذا العقد، بل وأي علاقة بمحمد بودربالة لا من قريب ولا من بعيد. وعندما اتصل صحافيو «ميدل ايست آي» ببن ميناشي قال إنه ليس متأكدا أن القروي على علم بالعقد! افتراض أن هذه الرواية قابلة للتصديق يستوجب إغفال السؤال: هل يعقل أن يلتزم بودربالة بدفع مليون دولار، وأن يسدد ربع المبلغ عند التوقيع، لوجه الله؟ وهل يعقل أن يمضي في التكتم على هذه الصدقة، رجاء الثواب الأخروي، إلى حد عدم إعلام أحد وترك الأمر سرّا بينه وبين بن ميناشي؟

القدس العربي