الزعامة السياسية الفردية الملهمة حاجة عراقية
نحن مع ظهور نمط جديد للزعامة السياسية في العراق يتقدم فيها زعيم ملهم تكون خلفه حركة سياسية أو تنظيم ليس طائفيا ومنظمات شعبية بمشروع عراقي وطني غير طائفي.
قدمت تجارب الحياة الإنسانية في موروثاتها الدينية والإنسانية أهمية دور الفرد الزعيم والقائد الملهم في فتح طريق الحرية والتخلّص من قيود التحجّر الفكري والإيماني لدى الفرد والجماعة، وهذا ما عبّرت عنه الأديان عبر الأنبياء الصالحين، كما تقدم لنا ملاحم الشعوب الإنسانية عبر القرون إلى حد اليوم أمثلة على دور القائد السياسي والعسكري في صناعة الانتصارات الكبرى وفي استنهاض قيم الحياة.
أدت بعض تجارب الزعامات الفردية خاصة في الأنظمة الشمولية إلى تعميمات غير صحيحة لتقليل فكرة الزعيم الملهم خصوصا بعد اجتياح النظام الديمقراطي العالمي وخضوعه لرأسمالية السوق ليصبح الرئيس موظفا حكوميا لفترة زمنية، ومع ذلك ما زالت قصة الزعيم الفرد مشعّة في جميع النظم السياسية.
تاريخيا ما زال يذكر دور الزعيم الأميركي أبراهام لينكون في إرساء الديمقراطية إضافة إلى ونستون تشرشل ونابليون بونابرت اللذين رغم زعامتهما التاريخية فقد خضعا للقانون الديمقراطي وتنازلا عن زعامتهما، فيما استخدم هتلر الديمقراطية وسيلة لقيادة الحرب والموت والدمار والعنصرية المقيتة.
يحفل العالم العربي بتجارب سلبية عن دور الزعامة في العصر الراهن رغم أنها ظهرت في فترة النضال القومي التحرّري ضد الاحتلال الغربي، لكنها تحولت إلى وسيلة للاستبداد الفردي. ما أدى إلى إحجام الفكر السياسي العربي عن تقديم رؤى موضوعية لدور الزعيم الملهم في الحياة السياسية الراهنة مع أن الإنسان العربي أكثر شعوب العالم تعلقاً بهذه الفكرة.
وبعد تراجع الدور القومي، ولملء الفراغ العقائدي والسياسي، سهّلت القوى الغربية ودعمت نشاط حركات الإسلام السياسي، الشيعي خاصة، بل قدّمت لها السلطة في النموذج العراقي لوجود هذه الجدلية في مشاريعها السياسية وفق ازدواجية مثلتها تجربة الحكم في العراق بعد عام 2003. فغالبية الأحزاب الإسلامية الشيعية تنقاد إلى النظرية الثيوقراطية في الحق الإلهي بالحكم، أي تعتبر أن الله مصدر السلطة وأن الحاكم هو ظل الله في الأرض مع إضافة النيابة عن الإمام المهدي الولي الغائب، والأتباع حتى وإن تولوا السلطة في بلاد المسلمين فإنهم يخضعون لهذه الولاية المفترضة.
من هنا لا تصبح للزعامة السياسية أي قيمة من دون تمثّلها للإلهام الفردي الديني. ومن جانب آخر تتولى هذه الأحزاب السلطة التي قدمها لها المحتل الأميركي وحاكمه العام بول بريمر وفق وصفة المحاصصة الطائفية بعد إنتاج مخرجاتها السياسية، شيعة وسنة وأكراد، عبر الديمقراطية الليبرالية الغربية في التداول السلمي للسلطة على أساس الانتخابات لمجموعة من القوى والأحزاب التي فرضت هيمنتها الطائفية ومحاصرة القوى الوطنية العراقية الليبرالية، وظلت قضية الزعيم الديني السياسي في الحياة العراقية تحمل الكثير من الألغام والتعقيدات بسبب الدستور المركب ما بين الديني والمدني، وكذلك سياقات النظام البرلماني وليس الرئاسي إضافة إلى الكثير من التعقيدات في تعدّد مرجعيات الشيعة في العراق ما بين الولاءين النجف في العراق وقم في إيران.
وفي لحظات مهمة من وقائع العملية السياسية وتراكم المشكلات على الشعب وفئاته الفقيرة برزت الحاجة إلى الزعيم الملهم، حيث مثلها الزعيم الديني الشاب مقتدى الصدر بكاريزميته الشعبوية ومكانته في الموروث الشيعي العراقي لسد الفراغ في حيز القيادة السياسية العراقية رغم الحواجز الدستورية التي تفترض المرور بمحطات الانتخابات البرلمانية لكي يتحول إلى زعيم لكل العراقيين. ولم تكن العقبات الدستورية هي الوحيدة في تعطيل هذا المشروع في القيادة الملهمة، بل بسبب طبيعة الفكر الديني وماهيته ومدى قدرته على إدارة السلطة السياسية في العراق ذي التنوع الديني والعرقي والذي بحاجة إلى سلطة مدنية لا تقحم في أحشائها الدين والمذهب. ولهذا وجد الصدر في دوره الرائد كزعيم وطني مصدّا لمحاولات جرّ العراق أكثر فأكثر نحو الهاوية، وهذا ما دفع الأحزاب الإسلامية الشيعية للتخلص من هذا المأزق الفكري السياسي باللجوء إلى المرجعية في النجف كوسيط “راشد” بين السلطة والشعب، رغم أنها لم تحقق حلولا جذرية بسبب جسامة حالة التدهور العام سياسيا وأمنيا واقتصاديا في العراق رغم البيانات الناقدة العديدة من هذه المرجعية للسياسيين.
ولا يتم الاقتراب من وصفة الزعيم الملهم في الحكم لأن هناك حزبا إسلاميا (الدعوة) حاول تنفيذ مشروعه الإسلامي المركب في القبول بالديمقراطية بخلفية مذهبية إسلامية، وترك استبداد قادته في السلطة جروحا في الجسم العراقي ولدى العرب السنة خاصة الذين لا يقبلون التعامل معهم وفق التوصيف الطائفي، فهم جزء حيوي صعب فرزه عن جسم العراق الحيوي.
إن سلبيات وكوارث تجربة حكم الإسلام الشيعي، خصوصا في ظل تجربة حكم حزب الدعوة الذي انتهى سياسيا، تضع العراق أمام إشكالية سياسية كبيرة في كيفية الخروج من مأزق السلطة وتقاسمها. ذلك أن المعالجات الترقيعية في إخفاء عناوين ذلك المدّ الطائفي الذي ساد في سنوات ما قبل 2018 لا تكفي، ولعبة إدماج السنة في الكتل الشيعية ثبت فشلها.
كما لا تكفي حالة الانسجام الحالي بين الرئاسات الثلاث (البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية) لتقديم حلول جوهرية لأزمات العراق، لأنها تحت ولاية الأحزاب الإسلامية الشيعية وهيمنتها وسياساتها البعيدة عن هموم الناس والمنشغلة طوال هذه السنين بالفساد المبرقع بالفشل.
الطريق السليم لانتزاع هيمنة تلك الأحزاب لا يتم على عتبات الانتخابات المحلية والعامة المعروفة بالتزوير، ولا على أساس ترويض بعض الوجوه العربية السنّية وتجديدها وتقديمها كزعامات متعددة تختلف وتتصارع في ما بينها حول المكاسب والمغانم فيما تتربّع الأحزاب الشيعية على “ولاية” السلطة وتمنع أي فرصة لقيام زعامة ملهمة لعرب العراق قادرة وفق السياقات الدستورية البرلمانية على أن تتقدم صفوف المواقع القيادية وتنتزع موقع القيادة الرئيسية في البلد بلا قوالب مذهبية وطائفية وفق القواعد الدستورية والقانونية. ولهذا لا بد من التغيير في هيكلية السلطة وزعامتها، فما الذي يمنع أن يظهر زعيم من بين العرب السنة يمتلك مؤهلات القيادة الشعبية لعرب العراق ويستطيع أن يحتل الموقع الرئاسي التنفيذي، أو أن يتقدم لمشروع الزعامة شيعي منحاز لقضية عرب العراق ليكون المسؤول الأول في الحكم بلا دعامات ولا وصفات طائفية شيعية.
طبعا لا بد من الحرص على وضع جميع الضوابط المانعة للاستبداد الفردي وهي مسألة ممكنة. إنها ببساطة وصفة جوهرية للتغيير، مع أنها تحتاج بعض التعديلات الدستورية البسيطة في مراحل متقدمة من تطبيقها، وهي تصطدم بعدد من منظّري الفكر السياسي الشيعي الذين يعكسون تمسك الأحزاب الحالية بالسلطة، فيقيّمون الواقع المتدهور الحالي بأنه أخطاء لا تمسّ جوهر فلسفة السلطة الحالية وإنما جزئياتها العملية، وبذلك يساهمون في استمرار أزمة السلطة دون حلول، ويحاولون تصغير حجم أي مبادرة جريئة لإنقاذ الوضع الحالي ويصفونها بالخيال السياسي. لكنها في واقع الحال حاجة ملحة ينبغي على المفكرين والمثقفين العراقيين والسياسيين الوطنيين ترويجها وتقديمها للرأي العام لأنها ستخلّص البلد مما وقع فيه. نحن مع ظهور نمط جديد للزعامة السياسية في العراق يتقدم فيها زعيم ملهم تكون خلفه حركة سياسية أو تنظيم ليس طائفيا ومنظمات شعبية بمشروع عراقي وطني غير طائفي.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews