فوائد أن يستمر الحراك الجزائري
مضت الجمعة التاسعة والعشرون من عمر الحراك الجزائري، وكانت مؤشراً على أن هذا الحراك سيعود قويا مثلما كان قبل موسم الصيف والأعياد.
بعد كل جمعة تُطرح أسئلة ممزوجة بالخوف والتوجس والغموض، تتمحور حول أن الحراك طال أكثر مما يجب وأن الأمور تسير نحو طريق مسدود، إن لم تكن سارت وانتهت.
في العمل السياسي الجزائري اليوم قطبان يتنافسان. واحد يعتقد أن القطار تحرك وبدأ يقطع محطات بارزة ويجب ركوبه، خصوصا مع تسليم لجنة الحوار والوساطة تقريرها النهائي لرئيس الدولة أمس الأول. وآخر يؤمن بأن ما يجري عبارة عن مناورة كبرى غايتها النهائية الالتفاف على الحراك وتنظيم انتخابات رئاسية ثم تعود الجزائر إلى عادتها القديمة. وهو ما يرفضه هذا القطب معتبراً أن العمل الجاد لم يبدأ بعد، وأن الهدف الأسمى ليس تنظيم انتخابات بل الترتيب لجمهورية جديدة تسود فيها العدالة والحريات.
إعلاميا، المعسكر الأول له الكلمة العليا. ليس لقوة حججه بل لأنه متحالف مع الرجل الأقوى الذي في يده الحل والربط والبندقية، قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح. هذا المعسكر روّج، وصدّق، أن الحراك انتهى بمجرد سقوط الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة ووضعِ بعض رموز حكمه في السجن.
مشكلة هذا المعسكر أنه نظرَ، ولا يزال، للأمور من زاوية ضيّقة ونصف مسدودة. نظرة لا تخلو من أنانية ورغبة في الانتقام: لقد كان هذا المعسكر مهزوما ومهمَّشا طيلة ربع قرن من الأحداث الدامية والعاصفة التي عاشتها الجزائر، فلم يستفد ماديا وسياسيا، في مقابل معسكر استولى على كل شيء تحت رعاية مَن هم اليوم مُطارَدون أو مسجونون. لهذا يعتقد المعسكر الأول، المكوَّن من خليط من المعرّبين ومَن يطلقون على أنفسهم «الوطنيون» والإسلاميين والمهمّشين، أن الحراك فرصة مواتية ليستدرك ما فاته ويعوّض بعض خسائره.
وهكذا سارع هذا المعسكر إلى التحالف مع قايد صالح، للترويج إلى أن الحراك حقق أهدافه بفضل الأخير، وأن على الناس العودة إلى بيوتهم والتسبيح بحمد قائد الجيش. ووصل الأمر إلى اتهام مَن يصرّون على التظاهر كل جمعة بأوصاف قبيحة لا تليق بالجزائر التي يطمح إليها الجميع.
بيد أن هناك مشكلة عويصة يعاني منها هذا المعسكر تتمثل في تعاطيه مع الواقع في 2019 بلغة وأساليب نظام بوتفليقة وما قبله.. تجاهل واحتقار وشيطنة وتخوين وغير ذلك. وهي الأساليب ذاتها التي انتهت بالجزائر إلى هذه الحفرة السحيقة.
ضمن هذا المنطق ـ المشكلة ـ يجري تهميش هائل للحراك في الإعلام الحكومي، وخاصة التلفزيون، وكذلك التلفزيونات الخاصة التي قفزت بسرعة مذهلة من حضن بوتفليقة وعائلته إلى حضن قايد صالح. أكثر من التهميش هناك التحريض ضد الحراك ورموزه مطالبه. تستوحي هذه الحملة المسيئة شجاعتها واستمراريتها من الخطابات المتكررة لقائد أركان الجيش التي تحوَّلت إلى برنامج سياسي ملهمة لمن صدّقوا أن فرصتهم قد حانت.
الإطاحة بوتفليقة ومَن حوله من لصوص، بضغط هائل من الشارع، أمر محمود سيحفظه التاريخ، لكنه نصف الحل. النصف الآخر يكمن في بناء منظومة حكم ديمقراطية تقوم على سيادة العدالة والقانون وانتشار الحريات. بينما يوحي واقع الحال أن قائد أركان الجيش اكتفى بتنحية بوتفليقة وسجن بعض المقربين منه، ولا همَّ له اليوم سوى تنظيم انتخابات رئاسية يكون هو العين الساهرة على مسارها. لكن الأهم من ذلك، والأخطر، أن قايد صالح يعتقد أنه بما أنه أزاح بوتفليقة، بعد أن خدمه 15 عاما، يحق له إدارة ما بعده كيفما يشاء وأن على الجزائريين أن يوافقوا ويصفقوا. وخطاباته الأسبوعية تنبع من هذه العقلية وتنسجم مع هذا المنطق.
إذا كانت الانتخابات الرئاسية هي الحل، فالطريقة التي يجري تحضير بها هذه الانتخابات هي المشكلة، لأنها لا تختلف عن أساليب عمل النظام الجزائري في التسعينات وخلال سنوات بوتفليقة. وليس أدلّ على ذلك أن لجنة الحوار والوساطة برئاسة كريم يونس، أوشـكت أن تتحول إلى جهاز بيروقراطي لا يختلف عن الأجهزة ـ اللجان ـ البيروقراطية التي اخترعها النظام في السابق عند الحاجة واستعملها. وأصبح واضحا وقوفها أقرب إلى ابن صالح وقايد صالح منها إلى جزء معتبر من المجتمع يصر كل جمعة على أن له رأيا آخر، رغم جهود يونس والمتحدثين في لجنته لإثبات أنهم لم يتخلوا عن الشارع.
قد يكون الحراك مأزوما كما يدّعي خصومه، لكن الآخرين، وفي مقدمتهم قايد صالح، مأزومون أكثر. ومما يدعو إلى الخوف أنه في كل جمعة يتسع الشرخ أكثر بين «القايد» من جهة ومن لديهم رؤية سياسية مختلفة معه من جهة أخرى.
لتجاوز هذا التأزيم، يجب أن تتوقف لغة التخوين، وأن يسود الإيمان بأن استمرار الحراك علامة طيبة على يقظة المجتمع وإصراره على رفض العودة للوراء. كما على الجزائريين أن يؤمنوا بأن المشكلة ليست في الحراك بل في اقتلاع جزء من النظام والإبقاء على أجزاء أخرى، وبأن توقف الحراك يحمل مخاطر عودة النظام السابق برجاله وممارساته حتى لو جرت انتخابات رئاسية كما يروَّج لها اليوم.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews