هل يشتري ترامب الجزيرة!
اهتمام الرئيس الأميركي بالجزيرة البكر الأكبر في العالم، التي يذوب جليدها ليكشف عن ثروات طبيعية هائلة دفينة، يتعاظم نظرا للقيمة الجيوسياسية التي تتمتع بها غرينلاند، ما يجعل الصين والولايات المتحدة تتسابقان لتسخير تلك القيمة كل لمصلحته الخاصة.
ألغى الرئيس الأميركي دونالد ترامب زيارته الرسمية إلى مملكة الدنمارك التي كانت مقرّرة في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر إثر تعليق رئيسة الوزراء الدنماركية، ميتي فريدريكسن، على ما نشره على حساب تويتر الخاص به معبرا عن رغبته في شراء جزيرة غرينلاند التي هي أرض دنماركيةـ وسكانها دنماركيون، لكنها تتمتع بحكم ذاتي منذ العام 1979. وكانت فريدريكسن قد وصفت عرض ترامب وفكرته بأنها “سخيفة”! كما غرّد رئيس الوزراء الدنماركي الأسبق، لارس راسموسن قائلا “إذا كان يفكر حقا في ذلك فهذا دليل على أنه فقد صوابه”، مضيفا “فكرة أن تبيع الدنمارك 50 ألف مواطن للولايات المتحدة هو أمر يثير السخرية”.
وتماشيا مع طبعه الاستفزازي الذي يظهر جليا في تغريداته اليومية المثيرة للجدل، نشر ترامب تغريدة على حسابه أرفقها بصورة افتراضية لبيوت غرينلاند الصغيرة الملونة الموزعة بتواضع على أرض جزيرة غرينلاند وقد انتصب قي وسطها برج عال ذهبي من أبراج ترامب التي يشيّدها في العالم، وغرد بجانب الصورة ساخرا “أعدكم أن لا أبني برجا من أبراجي العالية إذا اشتريت غرينلاند”.
وتناقلت وسائل الإعلام على نطاق واسع هذه المسألة حتى قارب الأمر نشوب أزمة دبلوماسية بين واشنطن وكوبنهاغن، وانتهى إلى إلغاء زيارة الدولة التي كان يعد لها البيت الأبيض إلى الدنمارك بسبب غضب ترامب من القرار الدنماركي بعدم السماح له أن يكون شراء الجزيرة مدرجا على جدول أعمال الزيارة.
اهتمام الرئيس الأميركي بالجزيرة البكر الأكبر في العالم، التي يذوب جليدها ليكشف عن ثروات طبيعية هائلة دفينة، يتعاظم نظرا للقيمة الجيوسياسية التي تتمتع بها غرينلاند، ما يجعل الصين والولايات المتحدة تتسابقان لتسخير تلك القيمة كل لمصلحته الخاصة. وقد يكون تسابق بكين وواشنطن على الاستثمار والسيطرة الناعمة على غرينلاند أحد أهم المعارك السياسية الناشبة حاليا بين القطبين الصناعيين، وأداتها الاقتصاد.
فعين الصين تجحظ على ما تسميه “طريق الحرير الجديد” الذي يرتبط وثيقا بموقع غرينلاند الاستراتيجي على خط مسارات الشحن الجديدة في شمال المحيط الأطلسي إثر ذوبان طبقات الجليد القطبية بعامل الانحباس الحراري في العالم، حيث قلّصت الممرات الجديدة بشكل كبير فترة الإبحار للسفن والناقلات البحرية التي كانت تعتمد على قناة بنما أو قناة السويس للتنقّل عبر المحيطات.
أما عين الولايات المتحدة المركّزة على جزيرة غرينلاند، فليس بالأمر الجديد البتة، بل يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الساحل الشمالي الغربي للجزيرة تتربع قاعدة “ثول” الجوية الأميركية التي أنشئت في العام 1943، وهي تتوفّر على جهاز إنذار مبكّر للصواريخ البالستية، وكذلك على نظام متابعة الأقمار الصناعية لمراقبة الفضاء الخارجي.
أما موارد الطاقة التي استشرفتها الدراسات الجيولوجية الأميركية منذ زمن فحدّث ولا حرج من خامات الحديد والرصاص والزنك، إلى الماس والذهب والنفط، والأهم احتواء طبقات الأرض في الجزيرة العذراء على مادة اليورانيوم. الأمر الجديد في هذه القصة هو أن الرئيس ترامب عرض شراء الجزيرة بمن عليها، وهي سابقة سياسية أصابت المسؤولين والشعب الدنماركي بالصدمة والامتعاض من سلوك ترامب.
فترامب الذي يخوض حربا باردة غير معلنة مع روسيا من جهة، وحربا اقتصادية وتجارية معلنة مع الصين تكاد تودي باستقرار الاقتصاد العالمي وقيمة النقد في العديد من الدول التي تأثرت في هذه الحرب من جهة أخرى، اختار استنادا إلى خلفيته كرجل أعمال ومستثمر في العقارات أن يتعامل مع غريلاند وفق مبدأ العرض والطلب طالما أن هناك قوى عظمى تشاركه في نهمها للسيطرة على الجزيرة وهي الصين وروسيا حتى الآن.
وقد أثار تغلغل الشركات ووصول الأيدي العاملة الصينية بشكل مطرد إلى غرينلاند، حفيظة العديد من المسؤولين الدنماركيين، حتى أن بكين اضطرت إلى أن تتراجع عن عرضها لبناء مطارات ومنشآت تعدين جديدة في غرينلاند تقدّمت به في العام 2018. كما أن تقريرا للبنتاغون أشار مؤخرا إلى القلق من التمدّد الصيني في الجزيرة، وعبّر التقرير عن الخشية من أن تتمكن الصين من نشر غواصات هناك إذا امتدت أذرعها أكثر مما يجب في الجزيرة.
وطالما أصبحت العملية تتعلق بعروض شراء وإغراءات من قبل الشاري مقابل رفض قاطع من صاحب الأرض، لنلقِ نظرة على الأرقام المتعلقة بهذه القضية. فقد سبق وأن تداول المعنيون في البيت الأبيض صياغة مشروع قد يكون مقبولا للدنمارك هو أقرب إلى الاستثمار وليس الشراء، وخلصوا إلى فكرة تعرض فيها واشنطن معونات مالية سنوية لغرينلاند قدرها 600 مليون دولار سنوياً، وإلى الأبد؛ هذا علماً وأن الدنمارك تدفع مبلغ 740 مليون دولار سنوياً لغرينلاند ما يغطي نصف ميزانية الجزيرة السنوية.
فصل المقال يكمن في ما سينتهي إليه موقف سكان غرينلاند من طرح الرئيس ترامب الذي يخترق الأعراف السياسية والمسافات الدبلوماسية ويقدم عرضاً فجّاً لشراء أرض هي أقرب ما تكون لاستقلالها السياسي بعد عقود من الحكم الذاتي! فهل وصل الضعف الاقتصادي لبعض الدول أمام أباطرة الاقتصادات الكبرى، وحيتان الهيمنة المالية في العالم، إلى القبول بمقايضة أراضيها مقابل شيك سنويّ وأبديّ؟! وهل أيادي الصين وروسيا الممتدة في الخفاء ومن تحت سطح المحيط الذي يلفّ الجزيرة هي أقل خطراً على غرينلاند واستقلال رأي سكانها من عرض ترامب العلني، والذي وصف بالمتعجرف والخارج عن الصواب؟ أتساءل!
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews