الحراك و«الثورة الكروية»: وجهان لغضب واحد
كانت الجزائر بحاجة شديدة إلى فرحة كبرى من حجم الفوز بكأس أمم أفريقيا لتبدأ رحلة الخروج من ليل مظلم، متعِب وطويل. لم يكن ظلاماً رياضياً فقط، بل سياسياً قبل كل شيء. بدأ الليل في 1992 ثم تكرَّس مع بوتفليقة الذي جعل من الجزائر مرادفاً للشلل والهزائم والذل السياسي. الذين يعتقدون أن بوتفليقة أقعد الجزائر على كرسي متحرك بمرضه في 2013، مخطئون. هذا الرجل شلّ بلداً بحجم قارة اسمه الجزائر في 1999. فعل ذلك بعُقده النفسية وجنون العظمة الذي يسكنه، قبل أن يفعل بإصابته بجلطة دماغية.
سيكون من الصعب الفصل بين السياسة والكرة في الجزائر هذه الأيام (وقبلها). مارَسَ النظام الحاكم السياسة بواسطة الكرة وتحت غطائها ضِمن مساعيه المستمرة للحفاظ على الشارع خانعاً مستسلماً. أيُّ انتصار أو تأهل لمحفل كروي عالمي أو إقليمي، كان بالنسبة للحكام الجزائريين حقنة أخرى في جسد الشارع وبوليصة جديدة لكسب مزيد من الوقت للحفاظ على وجوده ومصالحه. لكن غاب عن أهل الحكم أن الشارع، في غضبه واحتقانه، لم يكن أقلّ حيلة وحنكة، فمارَسَ السياسة، هو الآخر، عبر الكرة وتحت غطائها. كانت الملاعب وستبقى مسرحاً رئيسياً لتفريغ شحنات الغضب الثقيلة المتراكمة. هناك يؤلف الشباب الأغاني المعبّرة عن استيائهم، ويؤدونها ببراعة وشجاعة دون خوف من القمع والملاحقة. في الملاعب رسم أبناء الجزائر أجمل لوحات التعبير عن الحزن والخيبة من بوتفليقة وحكمه. هناك عبّروا عن سخطهم من الفساد الذي نخر عالم الكرة الجزائرية بالتوازي مع نخره الاقتصاد والسياسة. فساد الكرة ليس فقط في استفحال المال عبر مليارات الدينارات التي تنقل نقداً في صناديق السيارات، بل أيضاً في تعيين رؤساء الأندية والمدربين، والمهام التي توكل إليهم.
في منتصف نيسان (أبريل) الماضي، أعادت أوامر فوقية تعيين عمر غريب على رأس أعرق نوادي العاصمة والبلاد، والأكثر شعبية على الإطلاق، مولودية الجزائر، فلم يختلف اثنان على أنه كان تعييناً سياسياً الغرض منه مقارعة الحراك السياسي في العاصمة عبر توجيه جماهير المولودية الهادرة. هذا ناهيك عن الأسئلة الكثيرة التي تحيط بسيرة وسلوك غريب في الفريق وخارجه خلال إدارته له في فترات سابقة، ومستواه العلمي المحدود، وكونه محسوباً على المافيا البوتفليقية.
لم تكن نوبات الغضب العام والتخريب وحرق الممتلكات التي تعقب بعض المباريات، تعبيراً عن استياء من أداء هذا الفريق أو ذاك، أو من خسارة نقاط مباراة مهما كانت حاسمة. لقد كان كل شيء تعبيراً عن غضب من شلل عام وبلد معطل إلا من نهب المال العام ومقدرات الشعب. ومثلها كانت نيران الشماريخ التي تُلهب في مدرجات الأنصار تعبيراً عن فرحة، وأهم من ذلك تعبيراً عن نار المظالم التي تكوي صدور ملايين الشبان. نتائج المباريات هي الوقود، والملاعب هي المسرح فقط.
ولذلك ليس من المبالغة اليوم القول إن «الثورة الكروية» التي أحدثها 22 لاعباً ومدربهم في كأس أمم أفريقيا 2019، هي الوجه المكمّل للانتفاضة السياسية المستمرة في الشارع، التي اتُفق على تسميتها الحراك الشعبي. قالها لاعب خط وسط الفريق الجزائري، عدلان قديورة، لتلفزيونات أجنبية بإنكليزية متواضعة بعد الفوز: «هذه هديتنا للشعب الثائر. هذا حراكنا نحن». من الصعب الفصل بين الاثنين. الاختلاف يكمن في أن «الثورة الكروية» أثمرت بسرعة ووصلت إلى هدفها، بينما تأخر الحراك الشعبي في الوصول لأنه في مواجهة خصم مركّب لا يقل عناداً عن فرق السينغال ونيجيريا وكوت ديفوار.
الحراك الذي بدأ في شباط (فبراير) الماضي احتجاجاً على قرار عصابة بوتفليقة ترشيحه لولاية خامسة، سبقه بأشهر عديدة حراك بنكهة رياضية في الملاعب وفي وسائط التواصل الاجتماعي احتجاجاً على تكليف نجم الكرة الجزائرية السابق رابح ماجر بتدريب الفريق الوطني. ماجر أسطورة كروية في زمنه، لكنه تحوّل إلى مدرب سيئ وفاشل مصاب بالغرور ويتصرف بصبيانية. كان الشارع يعرف أن ماجر لم يُعيّن في ذلك المنصب الذي يدرُّ راتباً خيالياً ومزايا لا تُحصى ومجداً نادراً، لكفاءته أو لنتائج حققها في مساره كمدرب، وإنما لعلاقاته بعائلة بوتفليقة. كان ماجر جزءاً من الحملات الانتخابية لبوتفليقة أكثر من مرة وفي أكثر من موقع، فكافأه آل بوتفليقة ومَن معهم من لصوص بمنحه الفريق الوطني الذي كان المتنفس الوحيد للجزائريين في ليل بوتفليقة المؤلم. كان تكليف ماجر بتدريب الفريق عملية سطو ولصوصية من قاموس أعمال السطو وسرقة المال العام التي قادت وزراء وولاة وقادة عسكريين اليوم إلى السجون. كانت واحدة سطواً على أموال الجزائريين وخيرات بلادهم، وكانت الأخرى سطواً على مصدر أملهم وفرحتهم الوحيد. لهذا تتابَعَ وتشابَهَ الحراك الذي أطاح بماجر بذلك الذي أطاح ببوتفليقة.
الآن، وبما أن «الثورة الكروية» وصلت إلى مبتغاها، هناك مخاوف من الاستيلاء عليها توازياً وتشبهاً بالمساعي الحثيثة لإفشال الحراك الشعبي. هذا ما على الجزائريين الانتباه له ومنع حدوثه. لم يعد يحق لأحد سرقة أفراح هؤلاء الناس. يجب فعل كل شيء ليكون إنجاز الفريق الجزائري في مصر في صالح الشعب وحراكه، لا قايد صالح وبن صالح ومخططاتهما.
المصدر : توفيق رباحي - القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews