الحراك الجزائري… كلمات إلى العقل
من مزايا الحراك الذي يجري في الجزائر، أن الأمور تتجه نحو الوضوح الذي يستسيغه عقل الإنسان والعقل الجمعي، بل حتى العقل الدولي أيضا، ومن هنا سر عبقرية الحراك الذي تجاوز عصر الثورات والثورات المضادة، وعصر الاستعمار وتصفية الاستعمار، وهو اليوم بصدد تخطي بنية النظام السلطوي الفاسد. ويعزى الوضوح الذي يلازم إرادة الشعب في الفضاءات العامة وقنوات التعبير العام، إلى تَشَكّل الرأي الجمعي الواحد من عمق التجربة المعاصرة، التي لا تقبل من يناقضها، ويحاول أن يجهز عليها حتى النظام نفسه، لأن هذا الأخير لم يعد موجوداً إلا كبقايا قيد الخروج من الحكم برضا وموافقة سلطة الحراك لا غير.
إن الحراك الجزائري، كما نشهده في الساحات والميادين العامة، قاسم مشترك يعصم إرادة الشعب من الزلل والخلل، ليس بالمعنى الرومانسي، ولا بمعنى التطلع إلى أحلام وردية، ولا هو ضرب من الفوضى أو الجنون، كما يعتقد البعض الذي لا يريد أن يحتكم إلى العقل في أبسط تجلياته: معقولية الأشياء التي تجري من حولنا. فالجماهير، عائلات وأسر وأشخاص، كلّها تمثل مادة صلبة وحيوية تقي بها نفسها من الإخفاق. فقد تجمعت لدى الحراك كافة الإمكانيات لمقاومة الموت، الذي يعني في حالة الجزائر والتجارب، التي تشابهها في بقية العالم، انتحار السلطة، على ما تفعل الجماعات الجهادية ذات المنبت والمنتهى الأصولي. فعندما لا تجد الأنظمة الاستبدادية السلطوية مادة، مثل الجماعات الإرهابية المتشددة، تسخرها كوقود سياسي لإطالة عمر النظام، تلجأ هي بدورها إلى عمليات تفجير نفسها تعبيرا منها عن آخر الرمق في حياتها.
وما يميز أو بالأحرى ما يمتاز به الحراك، وهو في الحقيقة لا يكف إطلاقا عن الإفصاح عن إيجابياته ومقدراته، أن ما يصدر عن الجماهير في سياق تعبيرها عن تصفية رموز الفساد، يصدر عن عقل جمعي تمثّل قيم ومُثُل ومبادئ سياسة الحكم الرّاشد طوال عهود من الأزمة الجزائرية والعربية الخائبة. فقد رفعت الجماهير الجزائرية شعارات في لافتات ويافطات، وتبادلت عباراتها على المواقع الاجتماعية تفصح عن فكر سياسي متقدم، وفي آخر تطوراته في العالم. فالجزائريون مع غيرهم صاروا في قلب العالم حتى وهم تحت نَير الحكم السلطوي. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن فكر الحراك معاصر لنفسه يأبى أي استعادة لأنساق ومنظومات رجعية ولّت وصارت تنتمي إلى التاريخ القديم. فهو حريص على إرساء معالم الدولة الديمقراطية التامة، التي تستقل بشخصيتها الاعتبارية القانونية، وتحاسب فورا كل الأفراد الذين ينالون من سيادتها ومصداقيتها، لأنها دولة الجميع والكل مستغرق ومشمول بها. شعارات المسيرات الشعبية ليست خاوية من مضامينها ودلالاتها، بل محايثة لما يجري في الواقع، لأن الجماهير التي صنعت الواقعة التاريخية (إسقاط عرش بوتفليقة)، هي التي راحت ترفع عناوين المراحل المقبلة بناء على ما يتحقق من الشعارات التي رفعتها. فلغة وخطاب الحراك هي كلمات إلى العقل لمن يحسن الإصغاء، ليس في الجزائر فحسب بل كل أرجاء العالم. والإنجازات التي يحققها ولا يزال الشعب في المجالات العامة، ونَزَعت اعتراف السلطة القائمة، هي في اللحظة الرّاهنة تَنُوس بين المخرج الدستوري، الذي عبثا يحاول النظام التشبث به لغياب أي ملاذ آخر، والمخرج الذي يريده الحراك، يساعدها على تصفية «إجرائية» لآخر بقاياه في الحكم. وهكذا، فالأزمة التي يعاني منها النظام في الظرف الراهن هي كيف السبيل إلى الخروج من الحكم وليس البقاء فيه.
فالبحث عن مخرج إجرائي للسلطة أو بقايا النظام متأتي من عدم القدرة على التفكير في أي مخارج غير إرادة الشعب، التي استقلت بها الجماهير في الميادين العامة ومدنها، لأن التفكير بمعزل ومنآى عن واقع الحراك هو انتحار للسلطة وليس بالضرورة للشعب، لأن قوة الحراك السلمية هي التي تعصم المجتمع من الكوارث التي قد يتسبب فيها النظام في آخر بقاياه. فاللحظة التي نلحظها ونقف على مشاهدها هي النظام ضد نفسه بعيدا عن الشعب، أي ظالم ضد ظالم، وذلك هو المشهد العبثي الذي آلت إليها الوضعية في الجزائر في آخر تطوراتها قبل الرُّسو النهائي على مرفأ الخلاص.
ليس بوسع الجيش اليوم أن يُقْدِم على التجربة ذاتها التي تسبب فيها منذ أكثر من عقدين، عندما ضرب الدولة في صلب مؤسساتها، وفي لحظة عبَّر فيها الشعب عن أفضل معاني الديمقراطية. فقد اغتال الجزائر وأضرم «الفساد» وتركه يجتاح أوصال جسدها، وسعى إلى تعميمه كأفضل سبيل إلى إعدام الحق وتصفية الحقيقة. فعلى ضمير الجيش عشرات الآلاف من الجزائريين الأبرياء، ولا يستطيع في لحظة السلم المسالم أن يلجأ إلى الترسانة العسكرية، لأنها لم تعد له، فَقَدَ شرعية استخدامها منذ أن هوى «عرّاب العرش الفاسد». فحالة الجيش اليوم مع السلاح هي حالة من يقبض رهينة للنجاة بنفسه: أينتحر أم يُسَلِّم الرَّهينة؟ وعليه، فيجب علينا أن نتحلّى بكثير من العقل، لأن الحراك يَمُدنا بكلمات ومعاني واضحة وبينة. فقد صنع الشعب الواقعة التاريخية التي بدأت يوم 22 فبراير/ شباط الماضي ولم تنته إلى اليوم بعد مرور 12 جمعة متواصلة، مع لحظة التأسيس ومندرجة تماما مع التاريخ في مداه الزمني الذي يوفر له سبل وطرق وحالات الظفر العظيم. ففي المقاربة التاريخية التي تلح على ضرورة اندراج الحدث في المدى التاريخي المعقول خاصة منه الطويل، على رأي المؤرخ الفرنسي الكبير فرنان بروديل، يكون الحراك الشعبي في الجزائر قد استوفى شرطه التاريخي، الذي يَعْصِمُه من الانزلاق والشطط، كما يحدث في الحركات العنيفة والثورية والمسلحة.
لكن عندما يفصح الشعب عن طبيعة مقاومته السلمية من البداية وفي السياق إلى النهاية، فإن الطرف الآخر لم يعد له إلا سبيل وحيد وهو الاندراج بدوره في المدى التاريخي الذي يُسَلّم فيه بقايا سلطته إلى الشعب تعبيرا منه عن نهاية حكمه واعترافه الأخير بإرادة الشعب كمرجع أعلى للسلطة في الجزائر، وهذا ما يفعله في الخطاب ولم يجرؤ بعد على تحقيقه في الفعل.
ما نحضره ونشاهده، في متابعة فورية ومباشرة للحدث في الجزائر، أن مسار الحراك يحقق إنجازاته في المدى التاريخي، لا يخطف المراحل ولا يحرقها، بل كل شيء في أوانه وحينه. فليس له من خيار آخر غير التفاعل الإيجابي مع لحظة خروج النظام بتلاشي بقاياه ولحظة استعادة الشعب مُقَوّمات الإرادة التي تسمح له بإرساء ملامح دولة المؤسسات، وتكريس الفعل العمومي الذي يند على الأغراض الخاصة. وصفوة القول، إن السِّلمية لا تَمْلِك التَّصْعِيد ولا القُدْرَة على التَّحوّل عن طَبيعيتها.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews