ورقة أردوغان الرابحة في الانتخابات البلدية

بلغت حمى الحملات الانتخابية في تركيا ذروتها، مع اقتراب موعد إجرائها في نهاية الشهر الجاري، تتطاير الاتهامات المتبادلة بين الأحزاب ومرشحيها لرئاسة البلديات ومجالسها المحلية، بما يشعر المراقب بأنه إزاء تغيير سياسي كبير، وليس انتخابات محلية معنية بشؤون الخدمات. هذا هو المناخ الذي يحاول الحزب الحاكم وإعلامه الموالي صنعه تحت شعار أن هذه الانتخابات مصيرية، أو مسألة حياة أو موت لتركيا، في حين يلاحظ فتور في الاهتمام لدى عامة الناس، أي الناخبين المحتملين، مرده شعور بلا جدوى أي انتخابات في تغيير حياتهم نحو الأفضل. فكل شيء يبقى على حاله بعد كل عملية من العمليات الانتخابية الستة التي خاضوها في السنوات الخمس الماضية، وفي كل مرة كان «مصير تركيا على المحك» كما يروج الإعلام المقرب من الحزب الحاكم، إلى أن بلغ الأمر بهذا الشعار درجة كاريكاتورية في الانتخابات المحلية الوشيكة. حتى بعض أركان الحزب الحاكم، كبن علي يلدرم، رفضوا إلصاق صفة «المصيرية» بها.
ويفسر بعض المحللين هذا الإصرار على الصفة المصيرية لكل انتخابات بخشية الحزب الحاكم من تراخي ناخبيه المحتمل في المشاركة لأحد سببين: فقسم من هؤلاء لديه قناعة راسخة بأن الحزب ورئيسه سيفوزان في كل الانتخابات مهما كانت الظروف، ولن يؤثر امتناعه عن المشاركة في التصويت سلباً على الكتلة الصلبة من مجموع الأصوات المؤيدة، في حين أن قسماً آخر يعبر، من خلال غيابه المحتمل عن صناديق الاقتراع، عن استياء متصاعد من الأداء الحكومي، وبخاصة في جانبه المتعلق بالاقتصاد. مجموع هذين القسمين من المحتمل أن يشكلوا كتلة وازنة ربما تؤثر سلباً على النتائج الكلية للانتخابات، وهذا ما يسعى الحزب الحاكم والإعلام المقرب منه لتفاديه من خلال القول بأن نتائج الانتخابات ستكون بمثابة قضية حياة أو موت، ليس بالنسبة للسلطة، بل بالنسبة للبلاد.
كيف يتم هذا الربط؟
بالقول إن حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان هما صمام الأمان الوطني في وجه «المؤامرات» التي تحاك ضد تركيا، تقف وراءها قوى الشر من دول وقوى متنوعة يسوؤها ما حققته تركيا من إنجازات كبيرة والمكانة التي بلغتها بين الأمم.. إلى آخر ما هنالك من ديماغوجيا تتعدد أشكال التعبير عنها لكنها تحافظ على أساسها. وتجد مثل هذه الأفكار سوقاً واسعة لدى الجمهور المتلقي المشبع برهاب المؤامرة، وخاصة في مناخ انتقادات أوروبية متكررة لحال حقوق الإنسان في تركيا بما يصل درجة حملات منظمة تستهدف الحكومة التركية، وفي ظل خلافات معلنة مع الولايات المتحدة، في الصراع السوري بصورة خاصة.
وهنا يتطلب استكمال هذه النظرية القيام بأكبر حملة تشويه ممكنة ضد المرشحين المنافسين والأحزاب المعارضة، للوصول إلى نتيجة مفادها أن انتقال الغلبة إلى تلك الأحزاب، حتى في البلديات، يعني انتصاراً للمؤامرات الخارجية، لأن أحزاب المعارضة إما متواطئة مع تلك المؤامرات أو أنها أضعف من أن تحكم البلاد. وتزداد قوة التشويه في الدوائر الانتخابية التي يلوح فيها مرشح قوي تشير بعض استطلاعات الرأي إلى احتمال فوزه، كحال مرشح حزب الشعب الجمهوري لرئاسة البلدية في العاصمة أنقرة منصور يافاش مثلاً. فقبيل الانتخابات بأقل من أسبوعين أطلقت حملة منظمة للنيل من مصداقيته بتلفيق اتهامات أخلاقية للرجل. ويخشى الحزب الحاكم من فوز مرشحي المعارضة في المدن الكبرى بصورة خاصة، إسطنبول وأنقرة وإزمير، إضافة إلى مدن أخرى كديار بكر وأضنة. وذلك بالنظر إلى نتائج الاستفتاء الذي جرى في نيسان/ابريل 2017 على تغيير النظام السياسي، حيث تجاوزت المعارضة، في تلك المدن، نسبة الخمسين في المئة ممن صوتوا بالرفض للتعديلات الدستورية.

بلغت حمى الحملات الانتخابية في تركيا ذروتها، مع اقتراب موعد إجرائها في نهاية الشهر الجاري، تتطاير الاتهامات المتبادلة بين الأحزاب ومرشحيها لرئاسة البلديات ومجالسها المحلية

وعلى رغم فعالية سلاح تشويه السمعة، هناك «ورقة جوكر» في يد السلطة تحقق لها ربحاً صافياً ألا وهي الورقة الكردية. فالناطقون باسم الحكم يهاجمون كل أحزاب المعارضة من خلال اتهامها بالتحالف مع «الإرهابيين» والمقصود بهؤلاء حزب الشعوب الديمقراطي الذي يوصف بالإرهاب بالتبعية لحزب العمال الكردستاني، وهكذا يصبح كل من «الشعب الجمهوري» و«الحزب الخيّر» وحزب السعادة (الإسلامي) متحالفين سراً مع حزب الشعوب الديمقراطي الذي هو واجهة سياسية للعمال الكردستاني، فينالون نصيبهم من تهمة الإرهاب، أو على الأقل التحالف مع الإرهابيين.
واقع الحال أنه ليس هناك أي تحالف أو تنسيق بين «الشعوب الديمقراطي» وأي من الأحزاب الأخرى. فأحزاب المعارضة تتعامل مع الحزب الكردي تعاملها مع الجذام. ولكن هناك تكتيكا أعلنه الحزب الكردي مفاده عدم تقديم مرشحين في المدن الكبرى وأماكن أخرى حيث لا يتوقع فوزهم برئاسة البلديات. بدلاً من ذلك أعلن الحزب أن ناخبيه سيصوتون للمرشح الذي يرونه أكثر إقناعاً لهم، والمقصود، بطبيعة الحال، هو دعم مرشحين معارضين لمرشحي السلطة حيثما كان من المحتمل أن يفوز الأولون إذا أضيف لناخبيهم ناخبو الحزب الكردي.
هذه هي الورقة الأقوى في يد السلطة، ليس فقط لأنها تتهم أحزاب المعارضة بالتحالف مع حزب إرهابي، بل لأن تلك الأحزاب تنجر إلى هذه اللعبة المكشوفة فتعلن «براءتها» من أي تعاون أو تنسيق مع ممثلي كرد تركيا. وسبب ذلك هو موقفها السلبي أصلاً من كل ما يمت بصلة للكرد. كان من شأن خطاب مختلف يقوم على الدفاع عن شرعية الحزب الكردي الممثل في البرلمان ويتمتع بقاعدة اجتماعية وازنة، وعلى رفض اعتبار التعاون معه تعاوناً مع الإرهاب أن ينتزع تلك الورقة من يد السلطة وينهي تأثيرها السلبي. لكن الواقع هو أن أحزاب المعارضة تبذل معظم جهودها للتبرؤ من أي اتهام بأن مرشحيها ربما ينجحون بأصوات ناخبين كرد.
استكانة تلك الأحزاب أمام هذا الاتهام دفع أركان الحكم بعيداً في إطلاق تصريحات عدوانية بلغت حد اتهام الناخبين الكرد بالإرهاب، وتهديد ناخبي أنقرة من عواقب تصويتهم لمنصور يافاش.
لم يبق إلا أيام قليلة تفصلنا عن «يوم القيامة» الانتخابي في تركيا.
كل انتخابات وتركيا بخير.

القدس العربي