الجزائر: الشرعية التوافقية قبل الانتخابية
لا يمكن المرور من الشرعية الثورية التي عاش على وقعها النظام الجزائري منذ الاستقلال، إلى الشرعية الديمقراطية التي تتطلب تركيز مبادئ دمقرطة المجال العمومي، دون تأمين مرحلة الشرعية التوافقية.
أكثر ما يُقلق في المشهد الجزائري كامن في استمرارية المشهد بحد ذاته، أي تواصل حالة التظاهر الأسبوعي من جهة، وحالة المنظومة الحاكمة التي تراوح مكانها دون القدرة على تقديم بدائل أو خيارات جديدة من جهة ثانية.
ما بين المشهدين، مشهد الشارع الهادر ومشهد الأوليغارشية الحاكمة، لا يبدو أن مجهودات الأخضر الإبراهيمي لنسج خيوط الندوة الوطنية، أو مشاورات رئيس الوزراء نورالدين البدوي لتشريك أكبر طيف ممكن من ممثلي المجتمع المدني الجزائري في حكومته القادمة، قادرة على أن تضع البلاد والعباد ضمن منطق الجمهورية الثانية.
الأكثر من ذلك أن الحضور الإعلامي الباهت لبدوي ولرمطان لعمامرة، إضافة إلى التصريحات الإعلامية المتهافتة للإبراهيمي في أكثر من محمل صحافي محلي وأجنبي، يثبتان أن المنظومة الحاكمة في الجزائر تعاني من أزمات هيكلية في المضمون السياسي والشكل الاتصالي.
كشفت الرسالة الثالثة التي أبرقها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إلى الرأي العام الجزائري بمناسبة عيد النصر، أن النظام بدأ يلعب أوراقه السياسية الأخيرة، حيث الذهاب إلى تفسير الخطوط العريضة وتحليل المبادئ الكبرى التي وردت في الرسالتين السابقتين، فيما المظاهرات الشعبية الأسبوعية تنادي بالمراجعة الكاملة والتغيير الجذري.
وتلك هي طبيعة التنازلات عندما تأتي في زمنها المتأخر، فلا هي قادرة على احتواء غضب الشارع، ولا هي مؤهلة لتأصيل الثقة المتبادلة التي بمقتضاها يتبلور الحوار الوطني ويصاغ العقد الاجتماعي الجديد.
وفق المشهد الجزائري الراهن، تعرف الأطراف المتدخلة والمتنافسة ما لا تريده أكثر مما تريده، فالشارع لا يريد الوجوه القديمة الجديدة ولا تمديد الولاية الرئاسية الرابعة تحت أي عنوان ولا حكومة بقيادة مباشرة أو ناعمة من جبهة التحرير الوطني، فيما لا ترغب المنظومة الحاكمة في الاستقالة الجماعية أو في الفراغ المؤسساتي، ولئن قدّمت الأخيرة خارطة طريق للانتقال نحو الجمهورية الثانية فهي تبقى دون انتظارات قطاعات كبيرة من الشارع الجزائري.
حيال هذا الأمر على الحراك أن يتجاوز مرحلة التناقض والمطلبية الضدية، وأن يقدّم خارطة طريق لراهن ومستقبل الجزائر، وتطمئن أجزاء واسعة من الجزائريين من العاملين في النظام الجزائري على أن مطلب الإصلاح يحتوي الجميع ولصالح الجميع ولا يستهدف إلا قلة الفاسدين والمفسدين. بمقتضى هذا الوضع لا يُمكن للمشهد الجزائري أن يتواصل على هذا الحال والحد من التصعيد، فهدف الاحتجاج الإصلاح، وجوهر الأخير عقد اجتماعي يجمع المواطنين على وطنهم ويؤثث حقوقهم وواجباتهم ويفتح الأفق لجمهورية ثانية.
لا يمكن المرور من الشرعية الثورية التي عاش على وقعها النظام الجزائري منذ الاستقلال، إلى الشرعية الديمقراطية التي تتطلب تركيز مبادئ دمقرطة المجال العمومي، دون تأمين مرحلة الشرعية التوافقية.
فالشرعية الثورية باتت تاريخا وعملة ثمينة غير قابلة للصرف، والشرعية الانتخابية تستأهل حيزا زمنيا معتبرا وأي استعجال في الانتخابات هو استعجال للغنائمية السياسية، والشرعية التأسيسية تفرض مدونة تشريعية جديدة في قانون الانتخابات وتوزيع الدوائر. في الأثناء تبقى هناك شرعيتان، الأولى هي شرعية مطالب الشارع، والثانية هي شرعية التوافق الوطني، هنا يتمركز الذكاء الجمعي في توظيف التوافق الوطني من أجل تحقيق أعلى قدر ممكن من مطالب الشارع، إلى حين تأسيس شرعيات دستورية أو انتخابية جديدة.
بشرعية توافقية يذهب إليها غالبية الفاعلين في المشهد الجزائري، ومحروسة من الشارع الذي عليه أن يبقى في الميادين، ومنقادة بمنطق وطني غير سياسوي وغير فئوي الكل فيها منتصر طالما أنّ الوطن منتصر، والكل مهزوم طالما أن الوطن منكسر، بالإمكان أن تحبر الأحرف الأولى من الجمهورية الجزائرية الثانية.
كلما حضرت الشرعية التوافقية كلما قلت تكلفة الانتقال الديمقراطي وكلما سهل البناء الديمقراطي بأشكاله المتنوعة، فالانتخابات بلا شرعية توافقية ولا مشروعية مواطنية هي محصلة أداة شرذمة اجتماعية وتفرقة وطنية، وكم انتخابات جرّت حربا ووبالا وكم من حوار أثمر مصالحة ومسامحة ومصافحة.
العرب اللندنية
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews