مسرحة الانتخابات في الجزائر

في 2015، اكتشفنا «سيريزا»، وصرنا نعرف أليكسيس تسيبراس، فهمنا ما يحدث في اليونان، وأن اليسار بإمكانه أن يحكم، في زمن الراديكاليات اليمينية، والأهم من ذلك أننا عثرنا على نقاط مشتركة بين الجزائر واليونان. البلدان دخلا في سياسة تقشف، وعجزا عن الإفلات من مافيا الدولة العميقة، تحكمهما أزمات داخلية، وعجز في الميزانية، وفي خضم المقارنة بينهما فكرنا، بسذاجة، أن اليسار عندنا من شأنه أيضاً أن يتكتل، ويصل إلى الحكم، وأن نهاية عهدة عبد العزيز بوتفليقة الرابعة، ستكون نقطة فصل، ولكن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، التي تفصلنا عنها أقل من ثلاثة أشهر، يتأكد، مرة أخرى، أن الوضع سيظل على حاله، و»سيريزا» لن ينبت، في الجزائر، بحكم أن اليسار المحلي يفضل أن يجلس، في مقعد المتفرج، ولا يستفزه الوقوف من مكانه والانزلاق إلى الحلبة، كما تفعل الأحزاب الدينية، أو الأخرى التي تلوك خطاباً، من سنوات محاربة الاستعمار، ولا تزال تكرر نفسها، مرة بعد أخرى.
بمجرد الإعلان عن موعد 18 أبريل/نيسان لإجراء انتخابات رئاسية في الجزائر، حتى اتضحت الأمور، دونما إثارة أو ترقب، فالسلطة السياسية في الجزائر تعجز، كل مرة، في ابتكار سيناريوهات تقلل من حدة الملل، وقدمت، من اليوم الأولى، عجينة ما سيحدث، وخرج عسكري متقاعد، من مخبئه، لا نعرف له سوى صورتين، واحدة ببزته ونجماته على كتفيه، والثانية يظهر فيها شبه عابس، يدون ملاحظات على دفتر صغير، والمصور ينتظر منه أن يبتسم وهو يتمنع، والتحق به رئيس حكومة أسبق، سبق له أن أكل من الصحن نفسه مع النظام، قبل أن يتحول، في الوقت بدل الضائع، إلى مُعارض، ويشكل حزباً، لا يوجد له ممثل واحد في البرلمان. في ذلك الوقت، راح الإسلاميون يخوضون حملة بالوكالة، على مواقع التواصل الاجتماعي، كما لو أنهم يقومون بتمرينات إحماء، ينتظرون إشارة من أعلى (لا ندري هل من السماء أو من سلطة خفية) للمشاركة أو لدعم مُرشح ما، بينما بقي الرئيس الحالي بوتفليقة، في أرض مُحايدة، ترك أنصاره، الذي تعودوا من سنين على الدعم غير المشروط له، مقابل الاستفادة من الريع، يفكرون في ما سيفعلونه، ويحشدون الجموع لمطالبته بالترشح لعهدة جديدة، والحفاظ على الاستمرارية. والاستمرارية هي الكلمة الأصلح للوضع في البلد، الذي يعيش من عشرين سنة، استمرارية في ملفات الفساد، وفي قضايا التعفن السياسي، ومع ذلك، يجد له دائماً أنصاراً ومحبين، يفرحون ببقائه وقد يحرجهم أن يتغير رأس الحكم ويصيرون في عداد الأيتام. ولحد الآن لا تزال الأمور هادئة نسبياً ـ مع إنها لا تنبؤ بأي تغيير ـ إلى غاية أن يُفتح صندوق باندورا، وتدخل الفضائيات الجديدة الحلبة، وتشرع كلاب الحراسة في ركضها وتزيد من توتر الحال، كما حصل عام 2014، حين لعبت واحدة من الفضائيات دوراً سلبياً، في دعم واحد من المرشحين، وبدل خدمة مرشحها، نصبت محاكم أخلاقية ضد معارضيه وأثارت نعرات تفرقة بين جزائريين.

الانتخابات الرئاسية هي رأس هرم الحياة السياسية في الجزائر، هي اللحظة الأهم، والأكثر حرجاً، ولكنها ليست بالضرورة لحظة التغيير، أهميتها تظل نظرية ولا وقع لها، في حياة المواطنين، ومهرجان الانتخابات، لم يحمل جديداً، في العشريتين الماضيتين، وكلمة التغيير تظل غير متاحة، على الأقل في الوقت الراهن، وبالتالي هي تمثيلية أكثر منها رغبة حقيقية، في الانتقال إلى مرحلة أخرى، هي مجرد تلميع للوجه، بأن البلد يسير في ديمقراطية، مع علمنا أن الديمقراطية نظام لا يليق بالجزائر، التي عاشت وتعيش في ظل صراع طبقي، وتحت سلطة الأقلية، كما أن الجزائري كفرد لا تروقه فكرة الديمقراطية، بما تتضمنه من مساواة وعدالة، لأنه يحيا ضمن صراعات يومية، يكبر وهو يشاهد، كل يوم، عنصرية وجهوية وقبلية، فهل يستطيع أن يتخلى عنها لصالح قيم ديمقراطية؟ سيكون أمراً صعباً عليه.
إن أسوأ أمر يترتب عن الانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر، أنها ستكون سبباً ـ غير مباشر ـ في خنق حراك اجتماعي تأسس، في الفترة الأخيرة، عقب حبس صحافيين وفنانين ولاعب كرة قدم، في قضية تبين لاحقاً أنها تفتقد أدلة كافية، فبعد حبسهم، والتشهير بهم ـ بشكل استعراضي يمس حياتهم الشخصية ـ في فضائية خاصة، قامت حركة تضامنية واسعة، وتشكلت نواة نضالية جديدة، في الدفاع عن حقوق الصحافيين، وفي الرغبة في توسيع هامش الحرية، وبما أنها حركة ناشئة، فمن شأن الانتخابات وتبعاتها، التعتيم على نشاطها وإحالتها إلى الصمت.
تبدو الرئاسيات في الجزائر، من الوهلة الأولى، مثل مسرح الظل، تتعدد فيها الشخصيات وأسماؤها، لكنها تتشابه، والفروقات بينها تكاد تكون جد بسيطة. كما أنها تسمح لأشخاص مجهولين بأن يصيروا معروفين، بمجرد إبدائهم رغبة في الترشح، فمجانين الحكم في تزايد، والأحزاب المجهرية وشبيهاتها التي تتمنى اعتمادها من وزارة الداخلية في ارتفاع، فهناك من يصدقون نكتة الديمقراطية، ويعتقدون أن حق المواطنة يمنحهم حق امتلاك القرار.
إذن، سيتوجه جزائريون يوم 18 أبريل، لانتخاب رئيس لهم، أو بالأحرى لإبداء الموافقة على الرئيس، وهم غير معنيين بما سيحدث بعد ذلك وغير متفائلين، فالسلطان الأكبر في الجزائر صار منذ زمن، الدعاء والصبر مع قلة حيلة الناس في التخلص من مستنقعات الفساد التي تتسع، وعجزهم في تحسين قدرتهم الشرائية، مع الانهيار المديد للدينار، وارتفاع أسعار مواد استهلاكية مستوردة في غالبيتها. وقد ملّ هذا المواطن المرهق من تكرار الأسماء والوجوه، حصول طفرة، فاليسار، الذي كان ينتظر منه أن ينتفض، أن يخرج بردة فعل حاسمة، بعد كل ما حصل في 2014، يبدو أنه أيضا مستأنس بالوضع، وتجربة سيريزا لن تتكرر في الجزائر، وعلينا أن نقر مجدداً، بأننا خسرنا المعركة قبل أن تبدأ، وأن 2019 لا يختلف بشيء عن سابقيه.

القدس العربي