متوالية الأزمات السياسية الفلسطينية

يعيش الفلسطينيون في بيئة سياسية معقدة، تتوالد فيها الأزمات بشكل غير مسبوق لم تشهدها حركات التحرر الوطنية التي قادت للتحرر والاستقلال. قد تعزى هذه الأزمات لعوامل تتعلق بالفلسطينيين أنفسهم، وبعضها يتعلق ب«إسرائيل»، وآخر يتعلق بالعوامل الخارجية. وهذا كله نابع من ماهية وطبيعة القضية الفلسطينية. وفي علم إدارة الأزمات جرت العادة على التمييز بين المتغيرات الرئيسية والمتغيرات التابعة في أية أزمة، وبداية الحل تكون بتفعيل المتغير الرئيسي وعدم تحويله لمتغير تابع. 
في الحالة الفلسطينية بدلاً من أن يلعب الفلسطينيون دور المتغير الرئيسي تحول دورهم لدور المتغير التابع، ولذلك ألقت العوامل الخارجية بما فيها المتغير «الإسرائيلي» دورها السلبي، وزادت من حدة التعقيدات والأزمات السياسية. قبل الحديث عن هذه الأزمات يجب تأكيد الحاجة للإطار البنيوي الذي من خلاله تتم إدارة أية أزمة، وهذا ليس متوفراً. الإطار البنيوي أو النظام السياسي هو أحد أهم مبادئ إدارة وحل الأزمة، كيف لنا وهذا الإطار هو نفسه يشكل الأزمة الأساس، حيث إن الفشل في بناء نظام سياسي توافقي ديمقراطي يعبر عن خصائص البيئة السياسية الفلسطينية، ويكون قادراً على الاستجابة والتكيف مع المعطيات والتحولات في هذه البيئة الداخلية والإقليمية والدولية المتسارعة في متغيراتها، ولعل بيئة النظام السياسي الفلسطينية مقارنة بالبيئات السياسية للنظم السياسية المستقرة أنها أكثر تعرضاً للمتغيرات المتحولة. فعوامل التطور كثيرة، منها العامل السكاني، وهو من أهم العوامل. فالتغير في عدد السكان بشكل ملحوظ وما يصاحب ذلك من ارتفاع سلم الاحتياجات والمطالب، كان أكبر من قدرة النظام السياسي وعناصر القوة المتاحة لديه لأسباب كثيرة، منها تحكم «إسرائيل» في الموارد الطبيعية، ولا يمكن أيضاً تجاهل عوامل الفساد والإنفاق الحكومي الكبير والبيروقراطية الإدارية المتخمة. ومن مظاهر التحول أيضاً التي لم يستوعبها النظام السياسي الفلسطيني عدم قدرته على التعامل والتكيف مع ظاهرتين سياسيتين يمكن أن تجعلا النظام السياسي الفلسطيني أكثر ديمقراطية. فظاهرة تطور مؤسسات المجتمع المدني التي بدلاً من أن تساهم في البناء الديمقراطي وتقلل من تغول النظام السياسي الفلسطيني الذي طغت عليه الأساليب الأمنية على المدنية، فتحول البناء المدني لحالة مترهلة تابعة. والظاهرة الثانية تتمثل بالتعددية الحزبية المتنافسة والمتناقضة في رؤاها السياسية وخصوصاً بين حركتَي «حماس» و«فتح»، فبدلاً من استيعاب واحتواء هذه القوى السياسية في إطار نظام سياسي ملزم للجميع، ومن خلاله تساهم وتشارك كل منها في صناعة القرار، خلقت كلها نظامها السياسي الخاص، وهذا قد يكون أحد أهم أسباب فشل عملية المصالحة، والتي تكمن في فشل الخيار الوطني، فأصبحت ل«حماس» بنية سياسية متكاملة غير قادرة على تقبل ما هو قائم، والنظام السياسي القائم لا يسمح باستيعاب واحتواء كل الفصائل والقوى السياسية في إطار من نظام سياسي يشارك فيه الجميع. 
لقد توفرت هذه الفرصة السياسية التاريخية بعد نجاح الانتخابات الفلسطينية التشريعية عام 2007 التي فازت فيها «حماس»، ويسجل للرئيس عباس تقبله نقل السلطة، وبدلاً من أن تكون هذه الانتخابات هي البداية لبناء النظام السياسي الديمقراطي الفاعل، يبدو أن كلاً من «حماس» و«فتح» لم تتخلصا من تصوراتهما ومدركاتهما السياسية، ف«حماس» لم تُبدِ استعداداً كافياً للقبول بنظام سياسي تعددي وبالتحول من نظام أحادي تسيطر عليه إلى نظام أكثر تعددية. و«حماس» مكمن خطورة فوز «حماس» في الانتخابات، إذ إنها تعاملت مع الانتخابات لمرة واحدة، وكان هدفها أن تصبح هي القوة المسيطرة والمهيمنة، ولهذا لا يمكن استبعاد أن أحد أهدافها هو السيطرة على السلطة وتحويل غزة إلى بنية مستقلة، وهذا يفسر لنا فشل التجربة السياسية الفلسطينية. 
إذن الأزمة هنا هي أزمة بناء سياسي، وأزمة توجهات سياسية، ومن دون التغلب على هاتين الأزمتين لا أمل في إنهاء الانقسام والتوجه نحو بناء نظام سياسي ديمقراطي تشاركي. وبسبب هذه الأزمة توالد العديد من الأزمات، كأزمة الشرعية، والأزمة الاقتصادية كالفقر والبطالة، وعدم القدرة على بناء اقتصاد مقاوم، وأزمة إدارية متمثلة بالتخمة الوظيفية التي تلتهم معظم الموارد المالية، إضافة إلى أزمة ذات طبيعة أمنية عسكرية بإضفاء طابع الهيمنة والغلبة لهذه المؤسسات، مما يضعف القرار السياسي المدني، وأزمة ذات طبيعة اجتماعية تتمثل في الانقسام المجتمعي، وأخرى ذات طبيعة ثقافية بانتشار ثقافة العنف والتطرف، من دون إسقاط صراع البرامج والخيارات الإيديولوجية التي تتمثل في تصور كل فصيل أن خياراته وعقيدته السياسية هي الأفضل والأمثل.
كل هذا لا بد أن يولد في النهاية أزمة خيارات معقدة، لن تؤدي إلى خيار يؤدي إلى إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية القادرة على صياغة برنامج وطني حقيقي يستطيع الصمود ومواجهة ما يحيق بالقضية الفلسطينية من مؤامرات ومخاطر وجودية.  

الخليج الاماراتية