الإعلام العراقي وخرافة المهنية
تحاول البروباغاندا السياسية عالية الصوت أن تسوق لما يسمى «التحول الديمقراطي» في العراق بعد نيسان 2003، من خلال الترسانة الاعلامية التي أنتجتها هذه المرحلة، لكن وقائع السنوات الماضية حقيقة، تثبت يوما بعد يوم، أن الديمقراطية في العراق هي ديمقراطية شكلية لا تحيل على أي محتوى، ولا تعدو كونها خرافات لا علاقة لها بالوقائع على الأرض.
ثمة نمطان رئيسيان من الإعلام في العراق؛ الاول هو الإعلام الرسمي ممثلا بشبكة الإعلام العراقية التي مثلت محاولة لاستنساخ بعض صيغ العلاقات بين مؤسسات الدولة، وتحديدا العلاقة بين ما أطلق عليها الهيئات المستقلة والحكومة، وتطبيقا لبعض الأوامر التي أصدرها بول بريمر في مرحلة سلطة الائتلاف المؤقتة. لكن هذه الاستقلالية «المفترضة» تم وأدها مبكرا بفعل البنى الذهنية للنخب السياسية العراقية التي لا تتسق مع هذا النمط من الاعلام المستقل. ومن هذه المؤسسات الهيئة العامة للبث والإرسال التي عرفت لاحقا بشبكة الإعلام العراقي. وهكذا تحول «إعلام الدولة» الذي حاول بريمر استنساخه عن تجربة الـ BBC، إلى إعلام حكومي بامتياز.
النمط الثاني هو الإعلام المملوك لأحزاب او شخصيات سياسية، وهذا النمط هو «إعلام» غير مستقل بالتعريف! وهو الأعلى صوتا، ومساحة، وتمويلا. ولكنه في النهاية إعلام موجه وأحادي الخطاب. وغالبا ما يتعارض تعارضا شديدا مع المبدأ الأساسي للإعلام وهو الحصول على المعلومات ونشرها. إذ يتم التعامل مع المعلومة ونشرها بوصفها سلاحا سياسيا في الدعاية السياسية للحزب او الشخص من جهة (الإخفاء والإنكار والهجوم المضاد) من جهة، أو سلاحا للتسقيط السياسي للآخرين من جهة اخرى. ومن ثم فشل هذا الإعلام فشلا ذريعا في تقديم نموذج إعلامي حقيقي.
وثمة نمط ثالث يحاول ان يجد له موطئ قدم في هذا المشهد من دون نجاح حقيقي، وهو الإعلام المستقل. أي الإعلام الذي ينطلق من مقدمات إعلامية بحت، بعيدا عن أي استقطاب، ولا يعترف إلا بالمحددات المهنية في نقله للمعلومة للجمهور، وفي اعتماد التعددية في مقالات الرأي. فالعاملان الحاسمان في هذه المعادلة الصعبة هو مدى التدخل الحكومي، ومعادلة «التمويل» من خلال استخدام سلاح الإعلانات. والأول على الرغم من انه ما زال محدودا، ولكنه قائم بالقوة، ويمكن اللجوء اليه عند الحاجة (إغلاق قنوات فضائية، والدعاوى القضائية ضد الصحافيين). وهو انعكاس واضح لعدم ايمان السلطة في العراق بالتعددية وحرية الإعلام! أما عامل التمويل فهو السلاح الاكثر نجاعة حتى اللحظة، وتستخدمه السلطة، من خلال الإعلانات الحكومية الدسمة، أو تستخدمه القوى السياسية عبر لوبيات المصالح السياسية/الاقتصادية. ولا يمكن إصلاح هذه العلاقة غير السوية إلا بافتراض إمكانية قيام نشاط اقتصادي خاص بعيدا عن السياسيين والاحزاب، أو إمكانية قيام مؤسسات صحافية قادرة على تطوير بنيتها الاقتصادية. وكلاهما عاملان بعيدان في المدى المنظور، في ظل التخبط الاقتصادي، والفساد، وسوء الإدارة. وفي ظل ضعف البنية المؤسسية والمهنية للإعلام العراقي.
منذ اللحظة الاولى لما بعد نيسان/إبريل 2003 بدا واضحا الغياب شبه المطلق للمهنية في الإعلام العراقي المقروء والمرئي والمسموع، فقد كان شريكا في الصراع الذي شهده العراق، حيث انقسم هذا الاعلام اثنيا ومذهبيا بدرجة أساسية، وانقسم إيديولوجيا بدرجة أقل. وإذا كان الإعلام المملوك لأحزاب او شخصيات سياسية يستمد خطابه من هذا الانقسام بشكل رئيسي، فإن الإعلام الرسمي (شبكة الإعلام العراقي)، وبسبب من طبيعة الدولة وموازين القوة فيها، وبسبب من فشله في الحفاظ على استقلاليته المنصوص عليها قانونيا، وبسبب من توجهات العاملين فيه، انتهى إلى يكون طرفا في هذا الانقسام. إن كان على المستوى الرمزي (مثل مواعيد الصلاة، وإعلان بداية رمضان، وموعد مدفع الإفطار وغيرها)، أو على مستوى الخطاب، أو على مستوى السياسة الإعلامية. أما الإعلام «المستقل» نظريا، فقد وقع هو الآخر في هذا الانقسام، ويمكنك أن تصنف أبرز هذه الصحف تبعا لانتماءات مالكيها او مموليها أو رؤساء تحريرها، أو توجهات العاملين فيها.
كما فشل الإعلاميون أنفسهم في ان يشكلوا تجمعا يضمهم بصفتهم الفئوية بعيدا عن أي استقطابات اخرى، فلم تستطع نقابة الصحافيين في أن تستمر في جمعهم إلا من خلال الثقافة التي حكمت النقابة خلال سنوات التسعينيات (المنح الحكومية، قطع الاراضي، قانون حماية الصحافيين بصيغته المطروحة من النقابة نفسها). هكذا لا نجد اصواتا من داخل هذه المؤسسات تطالب مثلا بتكريس بعض مبادئ الاعلام كمبدأ حق الوصول إلى المعلومات، وحرية التعبير، وتنظيم المؤسسات الإعلامية، وحقوق الصحافيين المهنية، أو غيرها من القضايا التي تتعلق بالمهنة. كما لم تستطع النقابة الوطنية للصحافيين، التي تشكلت في العام 2013 بمبادرة شخصية من صحافيين مستقلين، أن تجد لنفسها موضعا رسميا معترفا به حتى اللحظة، بسبب استمرار القوانين وقواعد العمل نفسها التي كانت قائمة في عهد النظام الشمولي قبل 2003 والتي حكمت العمل النقابي في العراق!
انتهت دراسة أصدرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بعنوان «الإعلام في العالم العربي بين التحرير وإعادة إنتاج الهيمنة»، إلى أن ثورة المعلومات وانتشار الإعلام المرئي والمسموع الذي شهده العالم العربي في السنوات الاخيرة، لم يترتب عليها إحداث قطيعة مع إرث الهيمنة والاحتكار وعلى حق الإعلاميين في النفاذ إلى المعلومات وبثها. ومن ثم تضاءلت إلى حد كبير فرص الانتقال إلى إعلام تعددي حر ومستقل كما تعرفه المجتمعات الديمقراطية. وأعتقد أن هذا الاستنتاج يصدق تماما على وضع الاعلام في العراق، مع أن الضمانة الوحيدة للديمقراطية هي الإعلام الحر والمستقل، فهل نعي الدرس.
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews