الفوضى الخلاقة: تعبير عفوي أم مصطلح منهجي؟
بتاريخ السابع والعشرين من يونيو/حزيران 2005، وخلال المحاضرة التي ألقتها كونداليزا رايس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، قالت من كانت تشغل حينها منصب وزير الخارجية: “إننا يجب أن نتطلع جميعاً إلى مستقبل تحترم فيه كل الحكومات إرادة ورغبات مواطنيها، لأن المثل الديمقراطية هي مثل عالمية. لقد سعت الولايات المتحدة لمدة 60 عاماً من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في الشرق الأوسط، لكننا لم نحقق أياً منهما، والآن نحن ننتهج أسلوباً آخر، فنحن ندعم التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب.
إن هدفنا هو مساعدة الآخرين في العثور على الأسلوب المناسب للتعبير عن آرائهم والحصول على حريتهم واختيار طريقهم. عندما نتحدث عن الديمقراطية فإننا نقصد التحرر أو التخلص من دقات الشرطة السرية على الأبواب في منتصف الليل”.
أحد الحاضرين علق على كلام كونداليزا قائلاً ما معناه، إن الديمقراطية قد تأتي بأعدائها إلى الحكم، ما جعل رايس ترد متفوهة بالعبارة التي اشتهر جزؤها الأخير: “لقد ولد الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها، في ظل أنظمة شمولية لا ديمقراطية، لهذا فإن التغيير مرغوب حتى وإن قاد إلى فوضى، فوضى خلاقة”.
وضع هذا الجزء من كلام كونداليزا رايس في سياقه، ينفي بلا شك الكثير من الأوهام التي شاعت بناءً على التصورات الخاطئة لهذا المصطلح، أو على ما يراد منه، فبعكس ما كان يروّج لنا إبان الانتفاضات العربية، التي امتدت عبر أكثر من بلد عربي، فإن الفوضى الخلاقة ليست عنوان كتاب ولا نظرية مفصّلة من وحي إبداع كونداليزا رايس، وإنما هي كلمة جاءت في سياق إيجابي بدت فيه رايس مدافعة عن الديمقراطية، ومطالبة بأن تمنح للجميع بلا استثناء، حتى أولئك الذين نظن أنهم معادون للديمقراطية بشكل بنيوي كالجماعات الإسلامية مثلاً.
يمكننا أن نعود بالذاكرة الآن لكثير من محللي وخبراء المؤامرة، الذين ربطوا بين هذا التعبير البسيط ومحاولات تجزيء وإضعاف المنطقة، واضعين صاحبة العبارة ومفكرين مثل برنارد لويس في سلة واحدة، وحدثا مثل احتلال العراق، في الكفة ذاتها مع انتفاضات العالم العربي، وتفسير ذلك كله بأيديولوجيا العمل على إحداث فوضى خلاقة في المنطقة. لم تكن هناك في الحقيقة فوضى خلاقة سياسية، بقدر ما كانت هناك فوضى أكاديمية وبحثية، أثرت بشكل واسع على أعمال الخبراء والمثقفين، الذين تعاملوا مع تلك الدعايات بدون تثبت أو تدقيق. كانت هناك بعض الإشارات المنهجية كالتوضيح المقتضب الذي قام به منصور خالد، الموظف الأممي السوداني السابق، في كتابه الصادر عام 2012 والمعنون بـ”انفصال الجنوب”، حيث تطرق منصور لهذا المصطلح، موضحاً أنه ليس من بنات أفكار رايس، أو تأليفها، ولا هو مصطلح تم ابتكاره من قبل الإدارة الأمريكية، بقدر ما أنه تعبير معروف في عالم الاقتصاد منذ عام 1942، منذ أن استخدمه النمساوي جوزيف شومبيتر صاحب كتاب “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” الذي يعد من الكتب المؤسسة لما سيعرف بعد ذلك بالاقتصاد النيوليبرالي. كان جوزيف شومبيتر يدعو بحماس لنظريته التي تتلخص في ضرورة هدم النظام القائم، الذي هو رأسمالي بسيط من أجل تشكيل نظام رأسمالي جديد يكون قادراً على الابتكار في مختلف مجالات الأعمال. هذا الهدم الواجب، بحسب نظرية شومبيتر، سوف يؤدي لتحول إيجابي بنّاء، ليبدو الأمر وكأنه هدم خلاّق من أجل البناء. لاحقاً، وبمراجعة كتاب “عقيدة الصدمة” للكاتبة الكندية نعومي كلاين، سوف نجد أن أيديولوجيا الهدم البنّاء هذه مترسخة في البناء السياسي والاقتصادي للنيوليبرالية، فمن العبارات ذات الدلالة الواضحة التي استشهدت بها نعومي كلاين في كتابها، العبارة الواردة في كتاب مايكل لدين “أسياد الحرب على الإرهاب” المنشور عام 2002 التي تقول إن “التدمير الخلاق هو عنواننا، سواء أكان في مجتمعنا أم خارجه. نحن نقوم يومياً بتقويض النظام القديم، بدءاً بالأعمال ووصولاً إلى العلم والأدب والفن والهندسة والسينما والقانون. عليهم أن يهاجمونا في سبيل البقاء، تماماً كما علينا أن ندمرهم كي نمضي في مهمتنا التاريخية”.
ربما كان مايكل لدين المؤرخ والمستشار السابق لكل من وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية، يستحق بشكل أكثر جدارة موجات الغضب والاتهام التي وجدت كونداليزا رايس نفسها مواجهة بها. في الواقع فإن رايس لم تفعل شيئاً سوى أنها استدعت عبارة معروفة في الفلسفة السياسية والاقتصادية الأمريكية.
إن وضع الأمور في نصابها لا يعني استبعاد المؤامرة أو حذفها من حساباتنا الموضوعية، خاصة أننا نكتشف منذ مخطط سايكس بيكو وحتى أحداثنا الحالية أن كثيراً مما كنا نعده صدفة أو سوء حظ، لم يكن في الواقع سوى نتيجة لتخطيط محكم، لكن المطلوب هو وضع كل العوامل والنتائج في سياقها الواقعي الصحيح من أجل الوصول إلى الصورة الكاملة. على سبيل المثال فإن ربط مصطلح الفوضى الخلاقة هذا بأصوله الاقتصادية، يجعلنا نفهم أن العراق ليس المثال الوحيد، بل تتكرر عمليات الهدم هذه في أكثر من بلد حول العالم، وبشكل قد لا يبدو فيه العامل الخارجي واضحاً أو مباشراً، سواء عبر عمليات متسترة هادفة لتدمير البنية الاقتصادية، أو عبر المساعدة في إدخال البلاد في نوبات من العبث السياسي الفوضوي، الذي يساعد على التدمير والإفساد الكامل بغية إعادة البناء بما يتوافق مع الشروط الغربية، خاصة الأمريكية.
من المفارقات هنا أنه، وبحسب جوهر العقيدة النيوليبرالية، فإن الكوارث الطبيعية المدمرة كالأعاصير والزلازل، والكوارث السياسية الكبرى كالانقلابات الدموية، وعدم الاستقرار السياسي، كلاهما يقود للنتيجة التي يراها أصحاب هذه النظرية إيجابية، لما تتيحه من فرص لإعادة البناء والإعمار بما يعنيه هذا من عقود عمل واحتكار مشاريع وإعادة هيكلة للاقتصاد، عبر تشجيع الخصخصة والعولمة الشركاتية. خير مثال لهذه العقيدة هو ما حققه الرئيس جورج بوش الابن ورفاقه دونالد رامسفيلد وديك تشيني، من ارتباط وصلات بين الحروب الخارجية من جهة وإعادة بناء الاقتصاد الأمريكي عن طريق التقليص الحاد للخدمات الاجتماعية والتدخلات الحكومية بما يشمل حتى منسوبي الجيش من جهة أخرى.الحديث الموضوعي عن الفوضى الخلاقة يدفعنا لأن لا نعطي العوامل المتعلقة بالمؤامرة، حتى مع الإيمان بوجودها، أكثر من حجمها الحقيقي. المشكلة في هذا التضخيم هو أنه يصب في خانة إعفاء كثير من المتورطين المباشرين أو المحليين في الأزمات السياسية والاقتصادية من مسؤولياتهم، بتركيز الانتباه فقط وبشكل وحيد على العامل الخارجي. سؤال أخير منطقي يبرز هنا وهو أنه إذا كان بالإمكان تفسير هبّة الربيع العربي بكونها مؤامرة غربية، فكيف يمكن تفسير فشل ذلك الربيع أو نجاح ما يسمى بالثورات المضادة؟ هل هي مؤامرة على المؤامرة؟ أم أن أولئك المتآمرين مصابون بانفصام في الشخصية بحيث يدعمون نجاح الشيء ويقفون خلف تعثره وفشله في الوقت ذاته؟
القدس العربي
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews